الحكومة المصرية والمستثمرون والمواطنون وفخ الرقمنة

21 اغسطس 2023

(محمد عبلة)

+ الخط -

افتتح رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، قبل أيام، مركزاً مميكناً لإنشاء الشركات "أونلاين" مباشرة، ومن دون الحاجة للبيروقراطية المعتادة التي يشكو منها المستثمرون. وشهد بنفسه تسجيل أول شركة إلكترونية تماما، عبر المنصّة الرقمية لهيئة الاستثمار. وفي هذا الإطار، تهتم الحكومة خصّيصا بكلّ ما من شأنه أن يحسّن موقع مصر في مؤشّرات التنافسية العالمية ومناخ الأعمال.
هذا تطوّر محمود بالتأكيد، لكنه يثير عدة أسئلة، لعل أولها: أليس من حقّ المواطنين المصريين الممول الأكبر للحكومة ضريبياً أن تُقضى حوائجهم ومصالحهم إلكترونياً؟ سوف يردّ علينا أحدهم بأن هذا متاح، وأن هناك خدمات عديدة رقمية مقدّمة للمواطنين، فلنعرّج على خدمة إلكترونية مفترضة أساسية، ويحتاج لها مصريون كثيرون هذه الأيام، وهي خدمة التحويل من مدرسة إلى أخرى داخل محافظة واحدة. إذن، لنتعرّف على طبيعة الرقمنة المطبقة لمصلحة المواطنين في المحروسة.
إذا أردت أن تنقل ابنك من مدرسة إلى أخرى في المحافظة نفسها أو المنطقة نفسها حتى في المحروسة، ستواجه بالآتي، وكأنك في فخّ أو متاهة علي بابا، فأولا ستُفاجأ بأن الموقع الخاص بمديرية التربية والتعليم في المحافظة يقول لك إن التحويلات إلى جميع المدارس الرسمية بجميع أنواعها "أونلاين" عن طريق الموقع الإلكتروني فقط. وهذا سيفرحك قليلاً لتقول لنفسك: أخيرا، تخلّصنا من البيروقراطية، ثم قد تشكّ في الأمر فتتصل بالبيروقراطية نفسها لتبدأ رحلة العذاب، وتفاجأ بأن لا علاقة لهم بكل ما يحدُث على المواقع الإلكترونية الرسمية. هكذا قيل لنا من مديرة مدرسة بيروقراطية مخضرمة، فبينما يقول لك الموقع إن التحويلات لا تتم إلا عبره فقط، إلا أنه يحيلك إلى المدرسة والإدارة والمديرية، لكنه يشترط أن تظهر نتيجة الإلكتروني، فإن مديرة المدرسة تقول لك إنهم لا يعترفون بهذا التحويل الإلكتروني. وهذه هي المرحلة الأولى من الفخّ.

أنت لست في أوروبا ولا دول الخليج أو حتى في هيرجيسيا عاصمة صومالي لاند، نحن هنا في رقمنة على الضيّق

المرحلة الثانية، لا أحد يعرف الورق المطلوب، ولا المواعيد المضبوطة تحديدا، فالمدرّسون لا يعرفون ما يدور في أروقة الإدارة، وكل همّ الإدارة التّثبت من الأوراق، فالمواطن دائما نصّاب في نظرهم، ولا بد من تأمين أنفسهم ضدّه وضد ألاعيبه، رغم أن كل ورقة تُعطى له تذيّل بأنها على مسؤوليته، وهو، في الوقت نفسه، كنزٌ يجب تقليبه عند كل توقيع أو ختم، وهو حتما سوف يدفع، لأنه مضطرّ، ما يجعلك في ضغط نفسي وعصبي رهيب حتى إنهاء مصلحتك. وعليك أن تتحلّى بضبط النفس، وألا تنفجر في هذه الآلهة البيروقراطية في أي لحظة، وإلا لن تنتهي مصلحتك إلا بواسطة، بالإضافة إلى الرشوة التي أصبحت من المسلمات.
المرحلة الثالثة، سوف يقول أحدهم لكل طالب إن عليه أن يملأ أربعة طلبات تحويل، ثم يقوم بتعبئتها وتوقيعها وختمها من المدرسة المحوّل منها ثم الإدارة. وفي كل مرحلة من هذه سوف تدخل متاهة عندما تسأل عند من نوقع هذا الطلب، وعند من نختمه، وسوف تأخذ رحلة في المدرسة والإدارة والمديرية مكتبا مكتبا؟ ثم لسحب الملف عليك أن تتبرّع للمدرسة بمبلغ أو أدوات مكتبية ولوازم دراسية. وليست هنا المشكلة، فالمصريون يدفعون دماء قلوبهم لتعليم أبنائهم. المعضلة أنهم يأخذون توقيعك على ورقة، مفادها بأن أحدا لم يحصل منك على تبرّعات ولم يطلبها منك. وبالتالي، لا معنى لهذا إلا أنها تذهب إلى جيوب الإدارة أو من طلبها منك. وذلك فيما يحذّرك الموقع الرسمي للمديرية نفسها من أن تتبرع لأحد في أثناء العملية.
هل انتهت حكايتك هنا؟ مهلا، عليك أن تدفع مبلغا ما في البريد، وتُحضر الإيصال معك لزوم الرقمنة. يا إلهي، ألم يكن من الممكن الدفع عبر الموقع أو عبر تطبيقٍ ما أو عبر ماكينة فوراً لدى موظف الخزينة؟ لا، أنت لست في أوروبا ولا دول الخليج أو حتى في هيرجيسيا عاصمة صومالي لاند، نحن هنا في رقمنة على الضيّق.

أسعار المستخرجات الرسمية والشهادات تضاعفت عدّة مرّات في السنوات الماضية، وكأن الدولة تتاجر في الأوراق الرسمية

هل انتهت قصتنا مع الرقمنة؟ لا، عليك أن تأخذ كل هذه الأوراق وتذهب إلى المدرسة المحوّل إليها وتكرّر القصة نفسها، تقديم الطلبات للمدرسة والإدارة وتدفع التبرّعات، وورقة لتبرئة ذمة الموظف والمدير المرتشي. ولدى مواطن سؤال هنا إذا لديه ثلاثة أولاد، هل يجب التبرّع عنهم مرّة واحدة؟ لتأتي الإجابة بحدّة لا، كل طفل بأربعة طلبات تحويل بإيصال بريد مختلف بتبرّعات مختلفة. أحضر أحدهم ست سلال قمامة، ليضمن أنها ستُستخدم في المدرسة، فكانت نظرات الموظفين إليه باشمئزاز، كما لو أنه أحضر قمامة، وليس سلّة لتجميعها. والغريب أن هذا هو طلب مديرة تلك المدرسة التي تشترط نوع سلّة مهملات بلاستيكية معيّنة. وهذا غير مفهوم، إلا إذا كان قريب لها يملك الشركة المنتجة لهذا النوع، أو أن المحلّ الذي يبيعها متعاقد معها. قد تكون رحيمة معك وتخيّرك بين إحضار رزمة من أوراق الطباعة أو غيرها من المستلزمات التي لن تقلّ في ثمنها عن السلة. ليتهم يتعاملون مع المدرسة كجمعية خيرية، فيعطونك إيصالا فتدفع وأنت مطمئن أن ما تدفعه وتُحضره سيذهب إلى المدرسة وليس إلى الإدارة الفاسدة.
ليس هذا فحسب، بل ستفاجأ بأن الموظف سيتعامل معك وكأنه ذهب إلى صيد النسر، وقام بتحنيطه وتحويله ختما، وجلب المواد الأولية للأحبار. وبالتالي، لا بد أن تدفع وسيطلب منك شهادات ميلاد جديدة لطفلٍ لم ينه المرحلة التعليمية، وربما قدّم شهادة "مميكنة" قبل عام. بل وسيطلب منك لكل طفل شهادتين لا ندري لماذا، إلا إذا كان الهدف تشغيل مصلحة السجل المدني التي لا تنتهي طوابيرها، لزيادة حصيلتها، فأسعار هذه المستخرجات الرسمية والشهادات تضاعفت عدّة مرّات في السنوات الماضية، وكأن الدولة تتاجر في الأوراق الرسمية ولا يكفيها ما تحصّله من المصريين من ضرائب. والكارثي أن أغلب رسوم هذه الشهادات تذهب إلى صناديق خاصة، لا يعلم عنها المواطن شيئا، ولا رقيب أو حسيب عليها.

أليس من حقّ المصريين باعتبارهم المصدر الأكبر للضرائب أن تكون لديهم رقمنة حقيقية تقيهم شر كلّ الهم البيروقراطي؟

وعليك ألا تتعجب، عزيزي المواطن المصري، إذا رأيت الرسوم الخاصة بأي إجراء عشرة جنيهات على الورق، بينما يحصّل منك الموظف أو الموظفة مائة أو مائتين أو حتى ثمانمائة أحيانا، أي أن هؤلاء يحصّلون أكثر مما تحصّله خزينة الدولة. وتكاد هذه البيروقراطية تكون مافيا. وبطبيعة الحال، سوف تقف ضد أي رقمنة أو ميكنة، فالموظف يشعر بأن لا لزوم له، إذا لم يقف على شباكه أو أمام مكتبه طابور من المواطنين، يحمل كلّ منهم كومة أوراق وكل ورقة لا بد من استخراج مشكلة فيها، ولها حل من الباب الخلفي بالمال أو سيمارس عليك كل أنواع الغباء منقطع النظير.
هل بعد هذا كله من إهانة لم تُرتكب بعد في حق الطلبة وأولياء أمورهم والدولة والعلم والعملية التعليمية؟ هل يصلُح في هذا الوضع أن نقول إن في مصر رقمنة ونظاما تعليميا، إذا لم تكن معروفة كيفية نقل طالب من مدرسة إلى أخرى من دون رشوة ومن دون عذاب بيروقراطي؟ عندما كنا ندرُس النظرية السياسية في الجامعة، كان أستاذنا يقول لنا، في شأن البيروقراطية، إن هؤلاء المزاولين للأنشطة البيروقراطية في بلداننا إنما يمارسون علينا تمارين الاستبداد والنكد الصباحية والمسائية، كل حسب ورديّته. 
بالطبع، لن تتمّ هذه العملية في يوم أو يومين في قلب القاهرة الكبرى، حيث الازدحام والانتقال بين الإدارة والمدرسة، وكل هذه الدوائر البيروقراطية والحصول على تلك التوقيعات والأختام في يوم واحد شبه مستحيل، ناهيك بأنه مُكلف، سواء من حيث المرور على كل دوائر الفساد تلك، أو من حيث الانتقالات التي هي غير منضبطة بحال. وهنا سوف يتساءل رجل الأعمال الذي يمكنه فتح شركته إلكترونيا، كم يوم إجازة يحتاج الموظف لديه لينهي إجراءات نقل أبنائه إلى مكان قريب من مقر عمله؟ وهذا أيضا مهم لمؤشرات التنافسية، كما أن الفساد الذي تستطيع المؤسّسات المشرفة على تلك المؤشّرات قياسه بسهولة أيضا، هو مهم أيضا أن يلاحظ، وأن يُقضى عليه لتعزيز موقع مصر في مؤشّرات التنافسية. وعلينا أن نتساءل أيضا، أليس من حقّ المواطنين المصريين باعتبارهم المصدر الأكبر للضرائب أن تكون لديهم رقمنة حقيقية تقيهم شر كل هذا الهم البيروقراطي، وتزيح عن الحكومة مشكلاتٍ لا حصر لها في المحاكم وفي الشوارع وتقلل تكلفة الإدارة؟

عمر سمير
عمر سمير
عمر سمير
كاتب وباحث مصري
عمر سمير