الخلّ حلالٌ أم حرام؟
يقول المصري، إذا أراد الإشارة إلى تحويل موضوع جادّ إلى مهزلة: "أنتوا خلّيتوها خلّ". يحكي لي صديقي السلفي فخوراً إنهم كادوا أن يوسعوا الشيخ محمد الغزالي ضرباً، لولا أنه هرب. والقصة باختصار أن الغزالي ذهب، في تسعينيات القرن الماضي، إلى لندن لإلقاء محاضرة، وذهب الشباب، من محبّيه أو مكفريه، ليستمعوا إليه، نظراً إلى شهرته وتأثيره. ثم بدأت الأسئلة، فإذا بالشباب يسألون أسئلة شديدة السذاجة، كان أكثرها عبثا سؤال عن حكم الخلّ، هل هو حلال أم حرام؟، سأل الغزالي: أي خل؟ خلّ الطعام؟... نعم... حلال أم حرام؟... نعم، ما الذي أتى بهذا السؤال في ذهنك يا ولدي؟ منذ متى خلّ الطعام موضع تساؤلٍ أصلا؟ يردّ الشاب صاحب السؤال: أخبرنا بعض المشايخ الذين يأتون إلى هنا إنه حرام. ينفعل الغزالي، ويبدأ حديثاً عن التحدّيات التي تواجه المسلمين في الغرب، وعن نفوذ اللوبي الصهيوني في بريطانيا تحديداً، ودور الشباب في التعريف بقضاياهم، وضرورة انشغالهم بموضوعاتٍ تخصّ عالمهم، فإذا بالشاب يسألُه: وماذا عن الشيوخ الذين أفتوا بكذا كذا؟... لينفجر الغزالي قائلاً: "دول مش شيوخ... دول ولاد كلب"... ينفعل صديقي السلفي حين أُخبرُه أن الغزالي محق، وأن ردّ فعله بديهي، ومتوقّع، وأن صاحب سؤال الخلّ وأشباهه يعيشون في عوالم موازية، لا وجود لها أو أهمية، أو تأثير سوى في أذهانهم وخيالاتهم. يردّ صديقي السلفي في هدوء، وحكمة متعالية: لماذا؟ من حقّ السائل أن يسأل عما يريد، فهو حرّ، ومن واجب الشيخ أن يجيب، فهذا عملُه، أو يقول لا أعلم، وهذا أفضل من المزايدة على سائلٍ لا يعلم، بدوره.
كانت هذه الحكايات موضع تندّر سابق على هؤلاء المتنطعين الذين يخترعون أسئلة إجاباتها بديهية، فيما تشتعل النيران من حولهم. وكان المقصود بـ "هؤلاء" واضحاً، فهم فئة واحدة من دون غيرهم من المتدينين أو البشر. فهل يسعنا أن نقول ذلك الآن؟
تحوّل منطق الشاب السلفي، صاحب سؤال الخل، إلى خيار "ليبرالي" متهكّم على من سواه من رافضي سؤال الخلّ ومنطقه، وصار الاهتمام المبالغ فيه بصفع فنّانٍ أحد المعجبين، في حفلة، وسط مجزرةٍ في النصيرات، حقّاً للمهتم، له أن يمارسه، متى شاء وكيف شاء، وأن يستهلك فيه فقرات في برامج، وفيديوهات على "يوتيوب"، ومتابعات أخبار، وتدوينات، على "فيسبوك" و"إكس" وغيرهما، بل أن يتجاوز التهكّم إلى التهجّم على من يحاول لفت نظره أن المسألة بديهية، الفنان أخطأ، وعليه أن يعتذر، فيجعل صاحبنا "غير السلفي" من الموضوع قضية، ويزيدها إثارة بتبنّي الصفعة وصاحبها، ولوم الضحية، بوصفه معجباً ثقيلاً، ويستحق الصفع والضرب بالجزمة، فإذا بانتهاك "البديهي" يحوّل غير المهتم إلى مهتم، ويصبح الجواب عن حكم الصفعة/ الخلّ ضرورة مبدئية لحماية أنفسنا، من صفعاتٍ محتملة، لن يعدم أصحابها حيلةً في تبرير العنف، غير المبرّر.
يشاهد أهل غزّة وغيرها من بلداننا المنكوبة مباريات كرة القدم، ويحتفلون بالمناسبات المبهجة من أعراس وأعياد ميلاد وغيرها، وربما يناقشون، أحيانا، بعض الموضوعات التي لا تقل تفاهةً عن حكم الخلّ، وكذلك كاتب السطور ومثله ملايين من المهتمين، بصدق، بأحوال البلاد والعباد. لا مجال للمزايدة على أهمية "التنفّس" خارج أجواء القصف والدمار والموت، فهذا مهمّ، ومطلوب، و"حقّ". ولكن ثمّة فارقاً، واضحاً كالإهانة، بين الحقّ والتعسف في استخدام الحقّ، لا سيما إذا كان التعسّف هدفاً في ذاته، وما يحدُث يتجاوز الحقّ في قليل من التفاهة، كي نواصل، إلى استمرائها. فلا يملك المصري أو العربي، هنا والآن، سوى مواقع التواصل الاجتماعي، وقد أثبتت من قبلُ أنها "عامل مساعد" في تسريع وتيرة معادلة الغضب، وساهمت، مع غيرها من العوامل، في إشعال ثورات، وإزاحة أنظمة، وما زالت حوائط التعبير، الافتراضية، بالكلمة، والصورة، والفيديو، والكوميكس وسيلة العاطلين عن العمل في تربية الأمل، فإذا حوّلناها، بأيدينا، إلى "عوالم موازية"، فلن يبقى لنا سوى "الخلّ"؟