الداعية محمود الحوت وإشكالية السلطة والشعب
أعاد نبأ وفاة الداعية السوري، الشيخ محمود الحوت، في مكان إقامته بمصر الثلاثاء الماضي، إلى أذهان السوريين، وخاصّة أبناء مدينة حلب، مواقفَه وتأثيره في مريديه من الثوار السوريين لحظة انطلاقها في 2011، وما نجم عنها من جدلٍ وغموضٍ بشأن فتاويه التي شكّلت حالةَ انقسام في الوسط الحلبي، لا سيّما الشهيرة منها بعدم جواز الخروج على الحاكم بحُجَّة سفك الدماء والفوضى. كان هذا الموقف الذي جعله أقربَ إلى النظام السوري بمثابة زلزال لأوساط حلبية شعرت بخذلانٍ من شخصيةٍ دينيَّةٍ أثّرت ثلاثة عقود في المدينة، وخَرَّجت مشايخَ وفقهاءَ في مدرسة دار النهضة الشرعية، التي أدارها الحوت في 1983 خلفاً لشيخه المُؤسّس محمد النبهان في 1964.
لمعَ اسم الحوت داخل مدينة حلب قبل 30 عاماً معتنقاً التيّار الصوفي الغالب على سكّانها، وكان له تأثير كبير، امتلك مُقوِّمات جذب وإقناع عبر فنون الخطابة، وكان قريباً من طبقة التجّار والصناعيين وأثرياء المدينة الذين لم يتوانوا عن تقديم الدعم المادّي للمدرسة، نوعاً من تحالفات الطبقات البرجوازية والدينية التي أسّس لها نظام الأسد (الأب)، واستمرّ على نهجه بشّار (الابن الوريث). المدرسة "الكلتاوية" كانت تُخرّج سنوياً عشرات الأئمَّة وخطباء مساجد، يُعيَّنون فوراً في مساجد المدينة وأريافها تعييناً مُنعزلاً عن المدارس الشرعية التابعة لوزارة الأوقاف لدى نظام الأسد، وهؤلاء كانوا يصولون ويجولون بمهمًّات "الدعوة الصوفية" في مختلف المحافظات السورية وأريافها، ناهيك عن المريدين الشرعيين، الذين تخرَّجوا في الأزهر الشريف في مصر.
كانت المدرسة "الكلتاوية" تُخرّج سنوياً عشرات الأئمَّة يُعيَّنون في المساجد تعييناً مُنعزلاً عن المدارس الشرعية التابعة لوزارة أوقاف نظام الأسد
كان المذهب الصوفي عاملَ جذبٍ مناسبٍ لشرائحَ شبابيةٍ حلبيةٍ باحثةٍ عن منهج ومُعتقد يتناسبان مع بيئاتها المحافظة، وهو الأمر الذي قاد إلى إقبال آلافٍ على خُطَب الجمعة، ودرس يوم الاثنين، في مقرّ الدار بحي باب الحديد في حلب القديمة. كانت الحشود تتوافد إلى المسجد قبل ساعتين في الأقلّ، لشدَّة الزحام في يوم الجمعة، للصلاة هناك، والاستماع للخُطَب الرنَّانة من الشيخ الحوت. كان كاتب هذه السطور، ابن تلك المدينة، عندما يصل إلى عتبة الباب الحديدي (المدخل الرئيس للحي) ينظر أعلاه متأمّلاً عظمةَ هذا الحي وتراثه، الأزقَّة والحجارة ومحالَّ النحّاسين وغيرها من الحرف اليدوية الأثرية، فيشعر بالانتماء للمكان. كانت مشاعر الورع تختلج نفوس أبناء الحي، وهم يسيرون وسط الجموع إلى مكان المسجد، ما زاد من خبطة تلك المشاعر علوُّ صوت الشيخ عبر مُكبِّرات الصوت بين الأزقة من أشرطة مُسجَّلة لدروسه، عن الجنة والنار، وعن عذاب القبر، وعن كثير في دروس تأخذك إلى عوالم أخرى بتجييش العاطفة وتغييب العقول. عند هذه اللحظة، تنتابك مشاعر مختلطة، وتنسى برهةً ما هو خارج أسوار المكان، وكأنّ حياتك توقَّفت، تنتظر الولوج إلى عالم آخر، وتنتظر أمراً من الشيخ الحوت فقط، الذي جهَّز مريدوه المشهد بكلّ عناية تمهيداً لدخوله بين الجموع، ليتهافتوا عليه يسرةً ويمنةً مقبّلين يديه أو كتفيه، وهو في طريقه إلى منبر الخَطابة، ملعبه الأمّ، وأداته الطيّعة، لتجييش النفوس بكلمات تثقب القلوب وتحاصرها.
لا يُخفي الكاتب أنّه كان يتأثر من هول المشهد بعد سماعه أنين وبكاء المصلّين، ورؤية دموعهم، أمّا الأنظار فتراها شاخصةً متوجّهةً نحو منبر الشيخ، وكأنّ مغناطيساً جذبها في اتّجاه واحد. ساعةً إلّا عشر دقائق، وأحياناً تزيد، يستمرّ الشيخ بإطلاق كلماته مُستخدماً فنونه في الخَطابة، وتوزيعه للنظرات بلغة جسد مدروسة، وبقدرة هائلة في التحكّم بصوته، فتراه ينخفض ويعلو فجأة، لترتفع معه صيحات "الله أكبر". عند هذا المقام تنتابك مشاعر الخوف بخلاف الاعتقاد السائد، إذ كان من المفترض أن يشعر بعضهم براحةٍ كما كان يدّعي مريدوه، الذين رتَّبوا الصفوف عقب انتهاء الصلاة لتوديع الشيخ بالتقبيل والتمسيح، حتّى خروجه من المسجد.
حينما قامت الثورة في 2011، كان أبناء حلب، خصوصاً من مريدي الحوت، يعتقدون أنّ الثورة ستظهر من هناك لحظة تَفوّه الحوت بكلمة واحدة، التي من الممكن لو كانت في صالح الثورة أن تكون كفيلةً بأن تغدو حلب مع أختها درعا جنباً إلى جنب. انتظر أتباع الشيخ وغالبية الطبقة الوسطى المحافظة ظهور الحوت، بعدما سلَّموا له تسليماً طوال ثلاثين عاماً من الطاعة والتقديس، لكنّ الطامَّة جاءت بخذلان غير مسبوق، حينما قال إنّ "جور السلطان 50 سنة أفضل من جور الهرج شهراً واحداً"، مُتَّهماً المتظاهرين بعدم معرفتهم الصلاة والعبادات. ولكي يبعد المخاوف والشكوك، ويسقط التكليف الشرعي عن مريديه، ومشايخ الدار، اجتمع معهم قبل خروجه إلى مصر عام 2012، وقال لهم إنّه اجتمع مع بشّار الأسد ونصحه بإيجاد حلٍّ مع المتظاهرين، وحذَّرهم في الوقت نفسه من الانجرار خلف الإعلام المُعارِض، وأوصاهم بالتزام منازلهم والسكوت.
قاد موقف الحوت إلى شقّ الصف داخل مدينة حلب، وبين مريديه، وفي مشيخة الطريقة الصوفية، فمنهم من التحق بركب الثورة وذهب إلى مناطق المُعارضة في حلب الشرقية، التي دمَّرها النظام، وآخرون مكثوا في مناطق النظام، والتزموا تعاليم الشيخ، وطرفٌ ثالث من متصوفة اختاروا مغادرة سورية، ورأوا في تركيا ومدينة قونيا مكاناً مناسباً، مع بقية المريدين والأتباع من مشايخ وطلبة أتراك.
في 2012 ترك الحوت البلاد متوجّهاً إلى السعودية، واستقر بعدها في مدينة دمياط المصرية، تاركاً خلفه موجةً من الشكوك والانقسامات، لا تزال مستمرّةً بين المريدين، وبين الأتباع، وبين شرائح حلبية محافظة. لا أحد يعلم سبب المغادرة غير أنّه شاع بين مريديه أنّ الحوت اضطر لذلك بسبب ضغوط تعرّض لها من النظام لإجباره على اتخاذه موقف أكثر جدّيةً إلى جانبه، مُدَّعين أنّ الحوت لم يتّخذ موقفاً صريحاً في مصلحة النظام، بل دعا إلى الإصلاح السياسي والدستوري في إحدى خطبه مطلع العام 2012. لكنّ هذه المسوّغات سقطت مع عودة الحوت إلى سورية عام 2019، من طريق وساطة إيرانية توسّط فيها الشيخ أحمد حسّون، بحكم وجود علاقة مصاهرة بين الرجلين. آنذاك، رمّمت دار النهضة بعد سنوات طويلة من المعارك العسكرية، وأعيد فتح المدرسة من جديد، مع عودة الدعم المالي من التجّار والصناعيين. آنذاك، راج حديث عن أنّ الحوت طلب من الطرف الإيراني (عبر حسّون) السماح له بزيارة سورية، وعدم التعرّض له أمنياً أو اعتقاله.
أسقط هذا المنعطف آخر أوراق التوت عن الرجل بالنسبة إلى جمهور المعارضة، والثوار والحلبيين، متحفّظين وعاتبين على مواقف الشيخ السالبة ضدّ ثورتهم، بعد وضوح انحيازه التامّ للنظام السوري، ودخوله المحورين الإيراني والتركي، سيّما بعد ظهوره في مدينة قونيا التركية قبل سنوات، في مشهد شبيه نوعاً ما بما جرى مع الشيخ محمد رمضان البوطي، ومواقفه من الثورة السورية، ليتبع الركب والتصنيف الرسمي مع من بات يطلق عليهم "مشايخ السلطان".
مات الشيخ محمود الحوت وهو على مواقفه وما آمن به، وخذل السوريين، وغرّر وطعن بثورتهم
واقع الأمر، أسقطت الثورة الغباشة عن أبناء مدينة حلب، وهذه التجربة كان فيها عظةٌ ودروسٌ لأجيالنا وأطفالنا، لكنّ هذا لا يعني تعميم ما جرى مع الحوت، ورفض المشايخ وأهل العلم كلّهم. لا يصحّ التعميم، لكن العبرة في الوعي والعقل والتدبير والبحث، والانتقال من الشك إلى اليقين، في مسيرة المعرفة، والنظر إلى كلّ حالة في سياقيها المكاني والزماني. ربّما كان همّ الشيخ محمود الحوت الحفاظ على قلعته في باب الحديد (دار النهضة الشرعية)، وهي قلعة شيخه محمد النبهان، وتوريثها للمريدين، ومنع خرابها ودمارها، فباعتقاده أنّ العامل والموروث الديني أهم من مسببات الواقع والثورة، التي ستنتهي وستزول يوماً ما، وهذا يستدعي الاهتمام بما هو أكثر أهمّية، وسائد إلى تاريخ قيام الساعة، وفق معتقداته، وربّما لأجلِ ذلك حابى الشيخ نظام الأسد في عهدَي الأب والابن، وانحاز للأخير لحظة انطلاق الثورة، وغادر البلاد بعد رفضه الخروج عن الحاكم، ثم عاد بزيارة ووساطة إيرانية، وفي آخر أيّام حياته تنقّل بين مصر والعراق، وكان يدعو من هناك إلى محبَّة آل البيت في النجف الأشرف (هل تشيّع أم لا؟).
مات الشيخ محمود الحوت، وهو على مواقفه وما آمن به، وخذل الشعب السوري، وغرّر وطعن بثورتهم، مات وهو موسوم بوقوفه مع النظام والمحور الإيراني.