الدور الأول من رئاسيات فرنسا: في مسألة اليمين المتطرّف
تجري اليوم الأحد، 10 إبريل/ نيسان رئاسيات فرنسا في دورها الأوّل، على خلفية متغيرات جعلت منها، هذه المرّة، استثنائية، حقا، على أكثر من صعيد، سواء ما تعلّق منها بالمستوى الدّولي، الاقتصادي أو الدّاخلي، ممّا هو سياسي بحت، سيكون لها وقعها، جميعا، في تحديد المتأهلين إلى الدور الثاني، نهاية شهر إبريل/ نيسان الحالي.
لا ينبغي، بداية، الحديث عن طبيعة المرشّحين وانتماءاتهم السّياسية، لأنّ الأمر أصبح معروفا لدى العام والخاص، بالنّظر إلى الاهتمام الإعلامي الذي تحظى به رئاسيات فرنسا بل سيكون التركيز منصبّا على الإشكالات التي جرى الإيحاء بها صوب الناخبين، لدفعهم إلى اختيار التيار السياسي الذي سيصوّتون عليه، وهي التي تشير إلى الهوية، المهاجرين، التهديدات الأمنية سواء المرتبطة بانخراط فرنسا في الساحل أو بالجماعات الإرهابية التي تتحدّث فرنسا إنها من النّوع النائم، والتي قد تقوم ببعض العمليات على الأراضي الفرنسية، أو تداعيات كل من الجائحة والحرب الدائرة منذ فبراير/ شباط الماضي بين روسيا وأوكرانيا.
هناك تراجع فرنسي أكيد على أكثر من صعيد
حاول كلُّ مرشّح الاستفادة من هذه الإشكالات، والتّركيز على بعضها من دون الآخر، على الرّغم من التحدّيات الكبرى التي على فرنسا رفعها، خصوصا على الصعيد الاقتصادي، وهو الملف الذي جرى إغفاله، تماما، لصالح تلك الإشكالات، ما دفع محللين إلى اعتبار أن السياسة الفرنسية لم يصبح لها من مضمون إلا ما يمكن إشعال وسائل التّواصل الاجتماعي، أو الدفع بالمرشّحين إلى الحصول على بعض النّقاط في عمليات سبر (استطلاع) الآراء التي تتأرجح، في الصّدارة، بين الرئيس المنتهية عهدته ماكرون، ومرشّحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، وقريب منهما زعيم اليسار، ميلونشون، الذي قد يحقّق المفاجأة، ويتأهّل إلى الدور الثاني، وفق بعض التّحليلات.
على المستوى الدُّولي، هناك تراجع فرنسي أكيد على أكثر من صعيد، بل إن فرنسا، في شخص رئيسها، أهينت قبل اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، عندما ذهب إلى موسكو، بصفته رئيسا للاتّحاد الأوروبي، ولم يتوصل إلى ثني بوتين عن مخطّطاته بشنّ الحرب، بل، بروتوكوليا وإعلاميا، لم تكن الزيارة ناجحة، وهو ما استثمره مرشّحون، للحديث عن فشل ماكرون في السياسة الخارجية، خصوصا مع تزامن ما حصل في موسكو مع انسحاب فرنسا من الساحل ومشكلات خاصة بجمع الأوروبيين في ملف الدّفاع المشترك، وسعي دول كثيرة إلى خيار المظلّة الأطلسية، أو البدء في رسم سياسة دفاعية قومية، على غرار ما تقوم به ألمانيا من شراء لبعض الأسلحة، أو إطلاق مبادرة لمخطّط دفاعي قد يعيد إلى الأذهان، في أوروبا، مخاوف من ألمانيا متسلحة وقوية دفاعيا.
للإشكالات الدولية والاقتصادية وقعها على السياسة الداخلية الفرنسية والقضايا التي تثيرها الرئاسيات أو التشريعيات
نأتي إلى المستوى الاقتصادي الذي تعاني فرنسا منه كثيرا، خصوصا أن ثمّة انكشافا على صعيد التّشغيل، بنسبة بطالة هي الأعلى في أوروبا، وعلى تراجع بعض القطاعات الصناعية على غرار صناعة السيارات، الأدوية، مع فشل فرنسا في إنتاج لقاح لكورونا، إضافة إلى تصاعد اللامساواة في الدخل، ما دفع فرنسيين إلى الخروج للتظاهر، فيما باتت تعرف بظاهرة السترات الصفراء، وما انجر عن ذلك من صور لم يعتد العالم على مشاهدتها، خصوصا في شوارع باريس، من تعنيف الشرطة المتظاهرين.
تكاد التحليلات السياسية والاقتصادية تجمع على أنّ ثمة ارتباطا بين تصاعد موجة اليمين المتطرّف بتلك المشكلات الاقتصادية، إذ إن السياسة لا تفسدها إلا محاولة الإلهاء عن الحقائق المعيشية ومحاولة الإعلام التركيز على القشور، بدلا من إثارة الإشكالات الحقيقية التي قد تشير، حقا، إلى فشل السياسة الاقتصادية، وفتح الباب، على مصراعيه، للتداول في أقرب انتخابات تجري، وهي الرئاسيات الحالية، خصوصا أن الجميع يتذكّر أن فشل الرئيسين، ساركوزي، في 2012، وهولاند، بعده، في 2017، جاء لأسبابٍ اقتصاديةٍ بحتة، بالنظر إلى تداعيات الأزمة الاقتصادية للعام 2008 بالنسبة للأول وفشل الثاني في القضاء على مشكلة البطالة بل تفاقمها في عهده، إلى أبعد حد.
غالبا ما تكون للإشكالات الدولية والاقتصادية وقعها على السياسة الداخلية الفرنسية والقضايا التي تثيرها الرئاسيات أو التشريعيات، وهو ما نشاهده، حاليا، مع تصاعد الحديث عن إشكالات كانت هامشية، إلى وقت قريب لتصبح في محور اهتمامات كل التيارات السياسية الفرنسية، حيث لم يصبح هناك فرق بين اليمين واليسار أو الوسط، بل الكل يحاول، في أفق ربح معركة الرئاسيات، الحديث عنها والتركيز عليها، خصوصا ما تعلق منها بالإسلام، الهوية، الاستبدال الكبير، الهجرة، .. إلخ.. من القضايا التي أضحت هي المسائل التي تغطّي على الفشل على الصعيدين، الدولي والاقتصادي، وهي ما ترفع من أسهم أي مرشّح في عمليات استطلاع الآراء التي ترسم معالم اتجاهات الرأي العام في فرنسا، قبل يوم الحسم، في الدور الأوّل.
يتوجّس الجميع من مشكلات اقتصادية مقبلة، وليس من الساكن الجديد لقصر الإليزيه
وعندما تغوص أكثر تجد أن الطبقة السياسية الفرنسية، برمتها، تجعل من تلك القضايا أمهات الإشكالات على حساب الحياة اليومية للمواطن الذي يعاني من الغلاء وانخفاض الدخل، إضافة إلى معاناته من البطالة والتهميش، ثم تقديم حلول لتلك القضايا من السياسيين، في شكل مخاطر وجودية، هي سبب كل تلك المشكلات، وهو الآخر بكلّ أبعاده، سواء الدينية، الثقافية أو الهوياتية، بل تصبّ الاقتراحات، في أكثر الأحيان، على من يقدم الحلول الكفيلة بإبعاد تلك المخاطر، على غرار ما تقدّم به اليميني، إريك زيمور، من اقتراح بإنشاء وزارة "لإعادة التهجير"، أي إعادة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، إضافة إلى رفضه التعدّدية الثقافية، معتبرا التعايش الحضاري مقدمةً لما يسميه خطر الاستبدال الكبير الذي عبرت مرشّحة اليمين عنه بنظرية "السجن أو الباخرة"، أي أن مصير المهاجر المرفوض في فرنسا السجن إلى حين ترحيله أو القبول بالترحيل الطوعي، عبر الباخرة، في لغةٍ تكاد تمثل التوجه اليميني المتطرّف في بلد الحرية والعدالة وحقوق الإنسان.
على هذا، يتوجّس الجميع من مشكلات اقتصادية مقبلة، وليس من السّاكن الجديد لقصر الإليزيه، لأن معرفة من سيكون الفائز لا تغني إذا عرفنا أنّ السياسيوية هي وسم الرئاسيات لهذا العام، وبأن التوجه اليميني، مع الزخم الإعلامي والخوف من خسارة الرئيس الحالي، هو الغالب، وهو ما سيجعل هذه الرئاسيات علامةً على تراجع الديمقراطية بتراجع نسبة المشاركة فيها مع علم المواطنين بأن أصواتهم إنما جرى التلاعب بها إعلاميا، وعلى مستوى عملية سبر الآراء، من ناحية، وفي وسائل التواصل الافتراضية، من ناحية أخرى.
بالنتيجة، سيكون المتأهلون إلى الدور الثاني، وفق الترجيحات، كل من ماكرون ومرشّحة اليمين المتطرّف مارين لوبان، ما سيعيد الكرّة إلى رئاسيات 2017، ويفتح الباب، هذه المرّة، على توجه نيوليبرالي متوحش، بالنظر إلى احتمال التجديد لماكرون ممثل المالية العالمية. وبالتّالي بقاء فرنسا تعاني من التراجع، على كل الأصعدة وتداعيات ذاك، خصوصا في الضفة الجنوبية للمتوسط، وعلى المستوى الاجتماعي بالنسبة لملايين المهاجرين من المغرب الكبير، وتلك قصّة أخرى.