الدولة الإسلامية .. أم المتخيّلة؟
ما الدولة التي يبشّر بها الإسلاميون؟ وما نموذجها في العصر الحديث؟ ما التجربة التي يمكن أن يشار إليها فيقال هذه هي الدولة الإسلامية؟ لا إجابة واضحة عن هذا السؤال، منذ بداية "تنظيرة" أسلمة الدولة القومية الحديثة، مطلع القرن العشرين. وكان فرج فودة، في مناظرة معرض القاهرة الدولي للكتاب (1992) عن النموذج الإسلامي، قد أشار إلى واقع التجربة، وقتها، في الجزيرة العربية، وإيران، وحكم جعفر النميري في السودان، وكانت إجابة محمد عمارة (رحمهما الله): "هؤلاء حكام أفلسوا أرادوا أن يستروا عوراتهم بورقة الشريعة الإسلامية، من قال إنّ هؤلاء هم النماذج في التطبيق الإسلامي، نحن نريد الإسلام ولا نريد هذا النميري". هنا يتوقف عمارة، ولا يخبرنا ما الإسلام، بألف ولام التعريف، الذي يريده "في الدولة". وهنا، وعند حدود اللافتة الإسلامية، يتوقف "كلّ" من يدعون إلى ما تسمّى الدولة الإسلامية من دون إجابة واضحة عن السؤال الواضح، والمتكرّر، ما هي، وما الذي يميّزها عن غيرها؟ لا إجابة واضحة، كما أنه لا إجابة واحدة، لا يمكن الوصول إلى "نقطة ارتكاز" بين الإسلاميين أنفسهم، عما يريدون، فهي دولةٌ شمولية، تشبه نماذج الشيوعية والفاشية، في تصوّر أبي الأعلى المودودي (نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور)، وهي دولةٌ أقرب إلى الاشتراكية، في انحيازاتها الاقتصادية والاجتماعية عند سيد قطب (العدالة الاجتماعية في الإسلام وغيره)، وعند محمد الغزالي (الإسلام والأوضاع الاقتصادية)، وعند مصطفى السباعي (اشتراكية الإسلام) وغيرهم، كما أنّها دولة تجمع بين المدنية (والمرجعية الإسلامية) والديمقراطية (والشمولية الإسلامية)، والمواطنة وحرية التعبير وحقوق المرأة والأقليات، (وحاكمية الشريعة) وذلك في تنظيرات "وسطية" عدة، أبرزها يوسف القرضاوي (الدين والسياسة تأصيل ورد شبهات، السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، من فقه الدولة في الإسلام، وغيرهم). هنا نتحدّث عن تنظيرات ناضجة، لعلماء وباحثين، وهي، على ما فيها، لم تصل، يوماً، إلى مناهج الحركات الإسلامية الفاعلة على الأرض، ولم تشكّل يوما، انحيازات قواعدهم "الحقيقية"، بل على العكس، كلما ازداد الخطاب انفتاحا ازدادت الممارسات انغلاقا، و"عدوانية".
هل تابعت مشهد حرق الحجاب في إيران؟ دولة الإسلام السياسي "النموذجية"، ثورة جذرية راديكالية عارمة، تحدّث عنها العالم، وحكم إسلامي، بشّر به، في بداياته، الإسلاميون العرب (سنّة وشيعة)، واعتبروه "طليعة" حكم الإسلاميين، وذهب كلٌّ منهم يبحث عن "خميني" بلاده، مشهد حرق الحجاب مجرّد غلاف يخفي وراءه صفحات كتاب "مرعب"، تكشف عنها بعض الاستطلاعات التي أفلتت من "قبضة الملالي"، ومنها استطلاع مركز جومان الإيراني (2020)، بمشاركة خمسين ألف إيراني، والذي أفاد بأنّ ما يقرب من نصف السكان قالوا إنهم انتقلوا من التدين إلى الإلحاد، فيما 6% تحوّلوا إلى ديانة أخرى، و68 % من الإيرانيين، بعد سنوات من تجربة الحكم الإسلامي، يرون ضرورة فصل الدين عن التشريعات الحكومية، كما أن 58 % من الايرانيين لا يؤيدون تدريس العلوم الدينية في المدارس. هذه العلاقة المتوترة مع الدين، أو بالأحرى "دين الدولة"، هو المشهد الذي تكرّر، بصور مختلفة، في النماذج التي أشار إليها فودة، في مناظرته، وما زالت إجابة عمارة تجد من يعيد تدويرها، ليس هذا ما نريده، ليس هذا هو الإسلام، الحكم الإسلامي شيء آخر، الدولة الإسلامية لم تأت بعد، (ولن).
في النقاشات أخيرا بشأن ما يحدث في إيران، يعزو بعض الإسلاميين ما حدث إلى "شيعية" الدولة، فشلوا لأنهم شيعة، وليس لأنهم إسلاميون! والحال أن إيران، في المجمل، ليست دولة فاشلة. نجحت الدولة الإيرانية في ملفات هامة، وأخفقت في أخرى، شأن علمانياتٍ كثيرة، إلا أن الفشل، والرعب الحقيقي، لحق بالمجتمع، دينه، وقيمه، وأخلاقه، وهويته، ونواته الصلبة، (الإنسان الإيراني)، وهو ما يحدُث، وسيحدُث في أيّ تجربة حكم سياسي تبرّر نفسها خارج السياسة ومنطقها الدنيوي، فالحكم الديني، وفق تجارب التاريخ، خطرٌ على الدين قبل الدنيا، أيّاً كانت هويته العقدية أو المذهبية.