الديمقراطية ليست شرطاً للإبداع... الحرية هي الأساس
شهدت البشرية خلال نحو مئتي سنة خلت خمس موجات من التحولات الثورية الكبرى. كانت الأولى القضاء على الإقطاع في أوروبا في القرن الثامن عشر. ثم عمّت العالمَ موجةُ القضاء على تجارة العبيد ابتداء من عام 1830 فصاعدًا، وجرى في سياقها توقيع أبراهام لينكولن وثيقة تحرير العبيد في 1863، ثم مؤتمر بروكسل الذي حرّم تجارة الرقيق وجرّمها. أما الموجة الثالثة فكانت موجة القضاء على الاستعمار بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في 1945، ما أدّى إلى صعود نجم الولايات المتحدة، خصوصًا مع سيطرتها الاقتصادية على أوروبا المدمّرة من خلال مشروع جورج مارشال في 1947. ويمكن، بقليل من الاحتراس والتحفّظ، أن نرصد الموجة الرابعة التي اتسمت بالقضاء على النظم الشمولية في بعض أنحاء العالم، واكتسحت في طريقها دكتاتوريات أنطونيو سالازار في البرتغال، وفرانسيسكو فرانكو في إسبانيا، وحكم الجنرالات في اليونان. وفي أثناء ذلك، تعاظم شأن "نقابة تضامن" البولندية بزعامة ليخ فانيسّا التي ربما دشّنت عصر سقوط الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا. واليوم تتلاطم مياه الموجة الخامسة التي تصبو إلى إيقاد شعلة الديمقراطية، لكنها تكاد في تدفقها تقضي على الدول التاريخية، وتُغرِق الإثنيات والقوميات والطوائف في لججها، وتُشعل حروب الهويات المتقاتلة.
في حقبة ماضية، كانت الوحدة العربية (أو الوحدة السورية) هي المرتجى والأمل والحل. وصارت الشيوعية لدى كثيرين الغاية والهدف. وكان الإسلام لدى الإخوان المسلمين هو الحل، ولا حلّ إلا به. لكن الوحدة العربية (أو السورية) لم تتحقّق بالطبع، وانحسرت الشيوعية وخمدت ثم همدت. واليوم ترتفع راية الديمقراطية باعتبارها وصفة للخروج من حالنا المزرية. ويتبين لباحثين جدّيين كثيرين أن الديمقراطية وحدها ليست الحل بتاتًا؛ فالديمقراطية إنما هي نظام للحكم، أي للسلطة والدولة، وليست نظامًا للعقول. وفي هذا الحقل المعرفي، التاريخي والسياسي، راح كثيرون يخلطون المفاهيم بعضها ببعض، واعتقدوا أن التخلّص من نظام تسلطي يعني الانتقال إلى الديمقراطية تلقائيًا، وهذا خطلٌ شائن. فالديمقراطية، في جميع أحوالها وتحوّلاتها، شكل من أشكال الحكم، أي طريقة من طرائق الحكم، أو منهج بين مناهج عدة، لتدبير الرياسة والسياسة. لكن منهج الديمقراطية هو الوحيد الذي يأخذ في الحسبان تحقيق مبدأ الإرادة التمثيلية للمواطنين. وبهذا المعنى، لا تتضمّن الديمقراطية، بالضرورة، مفهوم الحرية الذي اقترن بها لاحقًا، والذي كان العنصر الأساس في أفكار الليبرالية، أكان ذلك في طورها الاقتصادي أم في طورها السياسي. والديمقراطية لم تكن تُعنى، في الأصل، بقضية الحرية، بل بالمساواة وبالعدالة لطبقات الشعب. أما الليبرالية فهي التي صاغت "قانون الانسجام الطبيعي" الذي يرى أن المجتمع، بأفراده وطبقاته، يستطيع أن يتوازن وحده من غير أي تدخّل للدولة في شؤون الاقتصاد والأسواق. وجل ما يُرغَب فيه هو تحقيق الحرية للأفراد كي يقرّروا ماذا يعملون وماذا يُنتجون، وكيف يستهلكون ما أنتجوه، ومقدار ما يدّخرونه أو يستثمرونه.
الحرية؟ نعم؛ لأنها قيمة إنسانية في حد ذاتها، ولأنها غاية للبشرية المفكّرة وللبشرية المتألمة في سعيها إلى الترقّي والتقدم. والحرية، بمعنى آخر، هي غاية التاريخ. وما التاريخ إلا مسيرة البشر نحو الحرية؛ فهو في هذه الحال تاريخ العبودية، وتاريخ الفكاك منها. والحرية هي الهدف الأرفع للإنسانية، وللإنسان الفرد كي يعيش بكرامة. وهي ضروريةٌ، أكثر ما تكون في ميدان البحوث العلمية وفي عالم الصحافة، فلا صحافة من دون حرية ومسؤولية في آن، ولا إمكان لإعداد البحوث العلمية إذا افتقرت مراكز البحوث إلى الحرية التامة للباحثين في اختيار موضوعات بحوثهم وفي معالجة تلك الموضوعات. ففي أوروبا، في عصر الأنوار، بحث الدارسون، بلا وجل، في أسطورية المسيح وتاريخيّته، ولم يتردّدوا في دراسة شخصية مريم وعذريتها، وشكّكوا في قصة القيامة من بين الأموات وفي معجزات المسيح كلها. ومعروفٌ أن ملك فرنسا فيليب أوغست أصدر أمرًا في سنة 1200 ميلادية منع بموجبه عمدة باريس من اعتقال العلماء والمفكّرين. والتزم ملوك بريطانيا جميعهم منذ عهد هنري الثالث مبدأ حماية الحصانة العلمية لجامعة أوكسفورد وأساتذتها وطلبتها.
يتبين لباحثين جدّيين كثيرين أن الديمقراطية وحدها ليست الحل بتاتًا؛ هي نظام للحكم، أي للسلطة والدولة، وليست نظامًا للعقول
كان تشجيع العلوم والفنون، ولا سيما الموسيقى والمسرح والفن التشكيلي، ورعاية العلماء والفنانين وحمايتهم، من سمات عصر الإمبراطوريات، ومن مزايا الملوك المستنيرين أمثال فريدريك الثاني وبطرس الأكبر وكاترينا وفرديناند وإيزابيل وآل ميدتشي وحتى أتاتورك. ففي عهد القيصر نيقولا الأول (1825-1855)، وهو الأكثر استبدادًا، عرفت روسيا سلسلة من المبدعين العظام، من عيار تولستوي وديستويفسكي وبوشكين وليرمنتوف وغوغول وتورغينيف وتشيخوف وريمسكي وكورساكوف وتشايكوفسكي وستانسلافسكي وغيرهم. وكاترين الثانية هي التي أسّست الأكاديمية الروسية التي كان لها شأن كبير في اكتساب الأنتلجنسيا الثورية قوّتها الفكرية التنويرية، فضلًا عن قوتها السياسية. وقد استمرّت اندفاعة الأنتلجنسيا الروسية إلى ما بعد ثورة أكتوبر 1917 التي ظهر في أثنائها كثيرون، أمثال ماياكوفسكي وأيزنشتاين ومايرهولد. لكن، مع خمول تلك الأنتلجنسيا وانحسارها في عهد ستالين، انتهت الثقافة وخمدت. أما الإمبراطور فريدريك الثاني ملك بروسيا فقد أسّس الأكاديمية وعين دالامبير محرّر الموسوعة الفرنسية رئيسًا لها، وكان صديقًا لفولتير. وكان لفريدريك صلة بالفقيه الأندلسي ابن سبعين (انتحر في مكة)، وهو الذي دعم ترجمة ابن رشد إلى الألمانية. وأعظم الأعمال الأدبية والفنية في مصر نُشرت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر غير الديمقراطي (نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور وخالد محمد خالد ورشاد رشدي وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين). آنذاك كتب توفيق الحكيم "السلطان الحائر" (1959)، ونجيب محفوظ "اللص والكلاب" (1960)، وخالد محمد خالد "في البدء كانت الكلمة" (1961)، ونجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل" (1966)، ويوسف إدريس مسرحية "جمهورية فرحات"، ورشاد رشدي مسرحية "إتفرج يا سلام"، وعبد الرحمن الشرقاوي مسرحية "الفتى مهران". وهذه الأعمال كلها، وغيرها كذلك، كانت تتضمّن نقدًا صارمًا للنظام الحاكم. وأفضل الشعراء والأدباء والفنانين في سورية لمعوا في العهد غير الديمقراطي، أمثال حنا مينه وسعد الله ونوس وسعيد حورانية ومحمد الماغوط ونزيه أبو عفش وعمر أبو ريشة وعلي الجندي وعلي فرزات وهاني الراهب وزكريا تامر وحيدر حيدر ومنى واصف ودريد لحام وخالد خليفة وخيري الذهبي وفاتح المدرس وكوليت خوري وطيب تيزيني وأنطون مقدسي وصباح فخري وصبري مدلّل وعابد عازرية وغيرهم كُثُر. وهؤلاء، جميعًا لم يكونوا مناصرين للحكم. ولا ننسى بالتأكيد ناظم حكمت وعزيز نيسين في تركيا، وإيزابيل أليندي وغبريال غارسيا ماركيز وماريو فارغاس يوسّا وبابلو نيرودا وفيكتور غارا وغبريال ميسترال في أميركا اللاتينية.
غياب الديمقراطية عن النظم السياسية العربية لا يجعل الإبداع الأدبي والفني والفكري والعلمي غائباً بالضرورة عن الحياة اليومية للناس
.. كانت الديمقراطية في إحدى مراحل التاريخ المعاصر متخالفةً مع الليبرالية لا متآلفة، غير أن قيم الليبرالية اندغمت بالتدريج بقيم الديمقراطية، وصار الذهن ينصرف عند الحديث عن الديمقراطية إلى الحريات الليبرالية، مثل حرية الرأي وحرية الاعتقاد وحرية النشر وحرية تأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات والمنتديات... إلخ. وهذه القيم، في منشئها، هي قيم الليبرالية لا قيم الديمقراطية. ولهذا لا بد من تكرار القول إن الحرية لا يمكن الاستغناء عنها في الصحافة والإعلام والسياسة والبحث العلمي بالدرجة الأولى، وهي ضرورةٌ للحياة الإنسانية وللإنسان الفرد كي يعيش بكرامة؛ وهذا من بدهيات الكلام. لكن من المشكوك فيه كثيرًا ربط الإبداع بالديمقراطية، أو أن الديمقراطية شأنٌ لازم للإبداع، وهو ما لم يجرِ البرهان عليه قط، لأن للأدب والموسيقى والشعر والفن التشكيلي، وحتى الرواية والسينما والمسرح، لغةً تختلف عن لغة الصحافة والإعلام والسياسة. الموسيقى، في حد ذاتها، لغة تتخطّى اللغة المباشرة. والشعر الرفيع يتعالى على اليومي والكلام السائب. والرمز والإيحاء عنصران يغمران جميع ضروب الإبداع خصوصًا في الرواية والشعر والفن التشكيلي.
غياب الديمقراطية عن النظم السياسية العربية لا يجعل الإبداع الأدبي والفني والفكري والعلمي غائباً بالضرورة عن الحياة اليومية للناس. فهل يضير نظامًا غير ديمقراطي أن يلمع في ثناياه موسيقي عظيم أو فنّان تشكيلي مبدع أو نحّات مميز أو شاعر ملهم أو سينمائي ساحر، أو حتى فريق رياضي ناجح؟ لا ريب عندي في هذا المقام أن بكائيات عدد غير قليل من الكُتّاب العرب (ومعهم طابور من الشعراء والفنانين) على غياب الديمقراطية في بلادهم لا يبرهن ألبتة أن مسؤولية قلة الإبداع لديهم تقع على عاتق النظم السياسية غير الديمقراطية، بل يبرهن عن خوائهم المعرفي وفقرهم الإبداعي أولًا وأخيرًا.