الدين والدولة في المغارب
يخيّل إليّ أن النقاش الفكري والسياسي، الذي خيض في الدول المغاربية منذ فترات الاستقلالات الوطنية الأولى، عن علاقة الدولة الوطنية بالدين الإسلامي، لم ينبن على أي أساس ديمقراطي، بل هو بالأساس تحكّمي تمنطق بالشرعية التي فازت بها القوى السياسية والمسلحة التي كافحت من أجل الاستقلال ومن إملائها، في بعض الحالات، بالقوة التحكّمية.
يعني هذا أن النقاش لم يكن ديمقراطيا مفتوحا، ولم تشارك فيه، بالنتيجة، شعوب المنطقة المغاربية من خلال ممثليها المفترضين في المؤسّسات الانتقالية الجديدة التي أوجدتها السلطة الوليدة. ولذلك كانت أغلب الدساتير المسنونة ممنوحة، وفي بعض الحالات توافقت على هذا المنح قوى ادّعت لنفسها شرعية النضال السياسي، أو اكتسبته من صلب الحركة التحريرية، أو اكتسبت تلك الشرعية بأثر "وراثي" له امتداد متواصل في التاريخ السلالي ... إلخ.
وإذا كان من الضروري استحضار جميع الاختلافات الممكنة بين السلطات الحاكمة، بالإضافة إلى التنوّع الاجتماعي البارز (العرب، الأمازيع، الأقليات الدينية وغير الدينية..) في دولها، فإن من غير المقنع تماما أن تكون الشرعية الموروثة أو المكتسبة، مهما كان مصدرها، تعبيرا عن الصيغة المطلوبة من الوجهة الديمقراطية التي لم يكن لها أي وجودٍ يمكن اعتماده في التقدير وفي التصوّر. والمقصود بهذا أن الدساتير الممنوحة جاءت، في الحقيقة، وقد يكون ذلك تبريراته الخاصة، على مقاس التجارب السلطوية التي اعْتُمِدَت في مختلف حقب التطور الاجتماعي والسياسي في البلدان المغاربية. هذا مع الاعتراف بأن الأبنية الدستورية في البلدان المغاربية تغيّرت مع التطوّر الزمني المشار إليه، إلى جانب النماذج المؤثرة (أغلبها أوروبية أو أميركية) المعروضة للتطوّر الاقتصادي والسياسي، وتطوّرت معها أيضا طبيعة الشرعية التي كانت في قاعدة المنح الدستوري، وفي بعض الدول كان لتأثير الصراع الاجتماعي، وقد اكتسى، في بعض المراحل، صفة الثورة الشعبية أو الانقلاب العسكري، الدور البارز في تعديل الوجهة السياسية العامة للسلطة الحاكمة، حين أخذت بعين الاعتبار، بوازع براغماتي، حجم الأخطار المحيقة بتطوّرها وتطور المجتمع بعامة.
نص معظم الدساتير المغاربية على أمور متداخلة، أغلبها مستمدّة من القانون الوضعي، وكذا من السموّ الذي تتمتع به بعض المواثيق الدولية
والناظر في مختلف تلك الدساتير، على تفاوت مستوياتها وأساليب صياغتها ومراحل إقرارها، يمكن أن يلاحظ بسهولة أنّ معظمها نصّت، من حيث المبادئ على وجه الخصوص، سيما وأنها لم تتمخض في أغلبها عن المجالس التأسيسية ذات الشرعية الشعبية، على أمور متداخلة، أغلبها مستمدّة من القانون الوضعي، وكذا من السموّ الذي تتمتع به بعض المواثيق الدولية، وفيها ما له علاقة بالثوابت التي استقرّ عليها الاتفاق في مراحل معينة من تطوّر المجتمع الدولي، وصيغت كتوجهات ملزمة (الديمقراطية وطبيعة النظام السياسي، الاختيارات الإيديولوجية النابعة من المصالح الوطنية، الأمة أو الشعب ...) إلخ، إلا في نقطة واحدة، وإنْ لا تنفرد بها الدول المغاربية وحدها، وأعني التنصيص على دين الدولة المؤكّد في الدساتير الممنوحة بدرجاتٍ مختلفةٍ وبصياغةٍ لا تختلف إلا من حيث الشكل بين نظام وآخر. مع الاعتراف بأن الصياغة انتقلت، حسب المراحل، من تعبيرها المطلق عن الارتباط إلى التَخَفُّف النسبي من الوثوقية التي ينبني عليها المطلق ذاك. مثال ذلك ما نصّ عليه الفصل الخامس من مشروع الدستور التونسي، بناء على الأمر الرئاسي ليوم 30 يونيو/ حزيران لعام 2022، من أن تونس "جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية". ومن المفهوم أن هذه الصيغة، وقد أعدّت بعد الإطاحة السياسية بحركة النهضة، فيها تعديل مقصود لما نصّ عليه دستور 2014 في فصله الأول أن "تونس دولة حرّة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها إلخ ..."، مع الإشارة إلى أن هذا الفصل ينصّ حرفيا على عدم جواز تعديله قطعا.
انبنى المشترك الديني الخاص بالدساتير المغاربية، فيما يبدو، على ركن مستخلص من "حقيقة" المجتمع، وعلى مُصَادَرة فكرية خاصة
انبنى المشترك الديني الخاص بالدساتير المغاربية، فيما يبدو، على ركن مستخلص من "حقيقة" المجتمع، وعلى مُصَادَرة فكرية خاصة (مجموع القيود المادية والمعنوية المفروضة)، وبدرجة أقلّ على إشكالية سياسية ترتبط بحركية المجتمع ومستوى ثقافته: أما الركن فهو القائم على التصوّر العام بأن غالبية سكّان المجتمعات المغاربية تدين بالإسلام، من دون الإشارة في بعضها إلى العرب ولا إلى اللغة العربية التي هي لغة القرآن. ومن الضروري أن "يتطابق" الدستور، الذي هو مجموعة من القواعد الناظمة للتعايش على أساس الاتفاق السياسي والاجتماعي، بناء على التأويل السلطوي المتحكّم في الصياغة، مع واقع المجتمع الذي يريد التحكّم فيه قانونيا وتشريعيا وإيديولوجيا. ومن الواضح في هذا التصور التأويلي أنه لم يراع أيا من درجات النسبية في تأكيد المصادرة المطلقة التي تدعو إلى ربط الدولة والنظام السياسي نفسه بالمعتقد الديني انطلاقا من التبرير الذي يضمن الأحقية المطلقة في شؤون الدين وأمور الحياة معا.
أما المُصَادَرَة فهي القائمة على فرضية التوقّعات المرتبطة بالديناميكية المجتمعية وبالصراعات العامة فيها، وتكون هذه التوقعات بمثابة إكراهاتٍ تُزَكّى عادة بالأغلبيات الممكنة أو المطلوبة، وبالتسويات الظرفية أو الدائمة، بعيدا عن التصوّر الديمقراطي المبني على النظام البرلماني المُعلن في الديباجة. وغالبا ما يُصاحب ذلك ما يرتبط بالدستور الممنوح من قوانين تنظيمية تحدّ من "غلواء" بعض المقتضيات المنصوص عليها، أو هي من تسويات النقاش العام بين أطراف سياسية، متضامنة كانت أم متناقضة، وقد تكون أيضا من الكوابح (بحكم غيابها أو غياب ما تنص عليه فلا تصير قوانين إجبارية) التي تؤجّل العمل بالمقتضى الدستوري بصفة نهائية، فَيُفْهَمُ تلقائيا من التنصيص عليها في الدستور مُبَرِّرُ وُجُودَها فيه، أي المصادقة الشكلية على معاهدة أو ميثاق يحظى باهتمام المنظمات الدولية ويكون من مطالبها في العلاقات العامة مع الدول.
القوانين التنظيمية المصاحبة عادة للتنظيم الدستوري، صَلُحَت، في غالب الأحيان، للحدّ أو للجم المطالب القصوى التي وقع تبنّيها بالتوافق أو بالإملاء
يمكن الوصول، بناء على هذا، إلى استنتاج مهم، أن القوانين التنظيمية المصاحبة عادة للتنظيم الدستوري، وهي بمثابة تشريعات محتملة لضمان التوازن وحماية الاستقرار والتقليل من مظاهر الانفلات السياسي أو الإيديولوجي أو العسكري أيضا، صَلُحَت، في غالب الأحيان، للحدّ أو للجم المطالب القصوى التي وقع تبنّيها بالتوافق أو بالإملاء. مع الإشارة إلى ظاهرة مهمة اخترقت معظم البلدان المغاربية، وكانت مصدر قلقٍ لحكّامها وسياساتها، وأعني بها ظاهرة الحركة الإسلامية، وخصوصا قبل استيعاب مداها وتدجين بعض فصائلها أو كلها حسب البلدان، فالتنصيص على الطابع الديني للدولة، اعتبارا لنظام الحكم والوجود الشعبي للحركة الإسلامية (دون غيرها من الحركات الدّعَوِيَّة) يمكن أن يفيد في اتجاهين متعارضين: لصالح تلك الحركة إذا ما أحكمت سيطرتها على الحكم، وللسلطة الحاكمة نفسها للفائدة المجنية من التحكّم (الوطني) في مختلف المعارضات التي قد تستهدف الحكم.
هذا مع الإقرار بأننا لسنا في مواجهة "الدولة الوطنية الدينية"، ولا يمكن اعتبار المناقشات المتعلقة بالموضوع دستوريةً أو فقهية صرفة، إلا أن التنصيص على دين الدولة وما يتفرّع عنه (البيعة، الإمارة، المذهب ...)، حتى مع الإقرار بطابعه الرمزي في بعض الدساتير المغاربية، يمكن اعتباره "خرقا" مقصودا، ينبني على تفكير استراتيجي استباقي، بمبرّرات دينية ذات تعبير مطلق يلغي الاختلاف والتنوّع القائِمَيْن في مختلف المجتمعات. كما يمكن اعتباره متعارضا مع ما يمكن الاصطلاح على تسميته "المدنية الدنيوية" التي تنبني عليها الدولة، وفي الأساس من تلك "المدنية" المقتضيات الديمقراطية التي تَسُنّ الحريات في المجتمع وعلى صعيد أبنيته ومؤسساته. بيد أن غالبية السُّلَط المغربية هي، في حقيقة وجودها، "ديمقراطيات" شكلية، لا تبرّر وجودها إلا عبر وسائط التحكّم السياسي والديني وأدواتهما، والاستغلال الاقتصادي الرامي إلى التفقير، فضلا عن القمع الفكري المبني على إطلاقية الرأي الواحد إلخ... أي، بتعبير آخر، على أشكال العمل والممارسة السياسية ما قبل الديموقراطية الحقّة.