الذين استوصوا بالنساء تنكيلًا وقهرًا
منذ خطواتها الأولى، عمدت سلطة انقلاب 2013 في مصر إلى تصدير وجه رومانتيكي بشوش إلى ما تظن أنها الفئات الأضعف في المجتمع، مثل النساء المصريات، وذوي الاحتياجات الخاصة، وخصوصًا الأطفال، والذين اختارت لهم مسمّى رقيقًا، فاعتمدت تعبير"ذوي الهمم"عند الحديث عنهم، وكذلك كبار السن.
بعيدًا عن أن هذه البشاشة الرومانتيكية كانت اصطناعية وملفقة ومنتجة داخل ورش الدراما لتخليق حالة كاريزما مبهرة، فإن هذا السلطة سلكت عكس بشاشتها المزعومة ورومانسيتها الإنسانية المدّعاة، مع فئة النساء، إذ مارست بحقهن، ولا تزال، أقسى أنواع القهر والإهانة، وبشكل خاص مع المحبوسات في السجون والمعتقلات، ثم مع ذوي المعتقلين، الأمر الذي لم نشهد مثيله في أرشيفات عصور الاستبداد السالفة.
بالأمس، كتبت ابنة المحامية والحقوقية، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، هدى عبد المنعم، منشورًا في وصف حالة والدتها، كما رأتها في زيارتها الخاطفة لها في السجن منذ يومين، تحت مراقبة جيش من الحرّاس والسجانين، تقول الابنة إنها "وجدت والدتها، ويداها مضمومتان وترتعش بشدة، قد بانت عليها علامات الضعف الشديد وكبر السن، فتستند إلى العصا التي صارت وكأنها جزءً من جسدها، وعلمت منها أن أزمة قلبية أصابتها قبل يومين من الزيارة، وأدركوها".
تحكي الابنة أن سلوك والدتها السجينة في أثناء قدومها إلى مكان الزيارة بدا لها غريبًا، إذ لم تحاول أن تلوّح بيديها لأسرتها، ولم تبتسم، وكأنها لا تراهم، ثم تكشّف أنها صارت وحيدة زنزانتها المقبضة، بعد خروج زميلات السجن.
للسيدة هدى عبد المنعم أبناء وأحفاد، بعضهم ولد في أثناء وجودها في السجن، فلم تره، ولا يعلم أحدٌ متى تستعيد هذه المحامية الجليلة حياتها المسروقة منها، بلا جريمة أو حتى تهمة محدّدة، سوى أنها تدافع عن حقوق السجينات، وتحاول مساعدة المظلومين، وهي حالةٌ من مئات الحالات لسيداتٍ مصرياتٍ محترمات، لا يمكن بأي حال اعتبارهن خطرًا يتهدّد الأمن القومي المصري، أو يزعزع أمن البلاد وسلامة أراضيها، أو يضرّ بالاقتصاد.
هي الرغبة المسعورة في الإهانة، باعتبارها سلوكًا انتقاميًا من كل من يمثل قيمةً محترمةً في مجتمعٍ يجري انتهاكَه بتلذّذ غريب، فيكون التجلي الأوضح لهذا السعار هو الممارسات ضد النساء، أمثال هدى عبد المنعم، وعائشة خيرت الشاطر، وهي أستاذة جامعية مرموقة، تقبع في السجن، خاضعة لانتهاكاتٍ وإهاناتٍ تصل إلى حد الفظائع، حتى تبدلّت ملامحها وأصابها الهزال، فبدت لعائلتها وكأنها حبيسة كهف مظلم منذ عقود.
يشمل التنكيل بالنساء الأسيرات في السجون، كما يطال أخرياتٍ خارجها، كما جرى مع والدة الناشط والحقوقي المحبوس، علاء عبد الفتاح، وشقيقتيه، من انتهاكات، وصلت إلى مرحلة الاعتداء عليهن في الشارع، وعلى أبواب المعتقل، على يد نساءٍ تستخدمهن الأجهزة الأمنية في هذه المهام .. كما طال هذا التنكيل زوجة أحد علامات الاقتصاد الوطني، صفوان ثابت، المحبوس مع ابنه الأكبر، حتى ماتت السيدة كمدًا مما يجري للزوج والابن ومعها هي شخصيًا في كل مرّة تحاول أن تطمئن فيها على حالتي الرجلين.
من الواضح أن هذه السلطة تستوي بالنساء المصريات قهرًا وظلمًا وتنكيلًا، سواء تنكيلًا يستهدفهن مباشرة، أو استخدامهن في كسر رجالهن المسجونين، إذ تحدّثت تقارير عن عشراتٍ من الروايات الموثقة منشورة عن تعذيب المعتقلين من الرجال، بانتهاك كرامة وقهر آدمية زوجاتهم أو بناتهم وأخواتهم، سواء بالتلويح أو بالتنفيذ، بغية انتزاع اعترافاتٍ بجرائم لم يرتكبوها.
كان من المتصوّر أن يكون كل هذا الانحطاط في التوحش ضد النساء المدخل الأساس لما تسمّى لجان العفو الرئاسي والحوار الوطني، في مقاربتها من ملف حقوق الإنسان والحريات في مصر، بحيث يكون الإفراج الفوري عن النساء من سجينات الرأي والموقف السياسي هو المبتدأ والخبر في مكلمة الانفراجة السياسية والمصالحة المجتمعية والذهاب إلى معالجةٍ حقيقيةٍ وجادّة لملف حقوق الإنسان.
كان يمكن لهذه السلطة أن توهم المستهدفين برسائلها الخادعة عن الإصلاحات السياسية والمراجعات الحقوقية بأنها تغيرت وتوقفت عن القمع والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، لو أنها قرّرت، قبل كل شيء، التوقف عن الخسّة في التعامل مع ضحاياها من النساء، وأفرغت الزنازين من السيدات المحبوسات على ذمة قضايا وهمية. لكنها لم تفعل أيًا من ذلك، ولا الجالسون على موائدها يتعاطون مقرمشات الحوار الوطني فعلوا، حتى من قبيل إضفاء شيءٍ من الجودة والجدّية على منتجات ورش الكلام والثرثرة عن حب الوطن وعظمة حكامه.
وكأنهم أوفياء لاستبدادهم، كلما جاءتهم فرصة ليظهروا أمام العالم إنسانيين ومتحضّرين، ولو على سبيل الخداع والمناورة، رفضوها وأطلقوا عليها الرصاص.