الرئيس النصف ولعبة الثلاث ورقات
يمارس عبد الفتاح السيسي حكم مصر على طريقة لعبة "الثلاث ورقات"، تلك اللعبة التي تنتمي إلى عالم القمار الرخيص، في الموالد والسيرك الشعبي والملاهي الفقيرة، والتي تقوم على إرباك الضحية بأسلوب احترافي، لاختيار الورقة الصحيحة من الورقات الثلاث، وهو الاختيار الذي لا يتحقق أبداً، بالنظر إلى دهاء اللاعب الشرير، وسذاجة الزبون المسكين.
يلعب عبد الفتاح السيسي، في السياسة بورقات ثلاث، يستخدم إحداها، ويخفي الأخريين، تبعا للمناسبة ومسرح اللعب، ففي مرحلة ما، ولتثبيت انقلابه داخليا، ظل وزير الدفاع المنقلب يصدر وجها ناصريا، يستثير فيه تلك النعرة القومية الخلابة التي اعتمد عليها جمال عبد الناصر، في الخمسينيات والستينيات، معتمدا على فيالق المثقفين والإعلاميين، من بقايا تلك المرحلة، ألبسوه ثياب عبد الناصر، ولقنوه خطابه، ولفتاته، واغترفوا له من أرشيفه ما يكفي لافتراس عواطف البسطاء.. ووصل الأمر إلى أن من أبناء عبد الناصر، أنفسهم، من قدم جلباب أبيه للجنرال الصغير، طمعا في تعويض سنوات الإهمال والتجاهل، فترتي السبعينيات والثمانينيات، أو نكاية بالإخوان المسلمين، الخصم السياسي التاريخي لوالدهم. ولا تنس الدور الذي لعبه محمد حسنين هيكل، صانع أسطورة عبد الناصر الإعلامية، في تلميع السيسي وتسويقه، كعبوة صغيرة، صغيرة الحجم منخفضة القيمة، من عبد الناصر الأصلي.
استشعر السيسي نجاح مرحلة اللعبة بالورقة الناصرية، في السيطرة على قطاع من الجماهير، المتعطشة للزمن الناصري، وما ارتبط به من شعارات العدالة الاجتماعية، والتي ألهب ظهورها الانحدار الطبقي المخيف أيام السادات ومبارك، على نحو أعاد إلى الأذهان الكلام عن هيمنة طبقة النصف بالمائة مرة أخرى. وما أن تحقق له ذلك، قرر أن يكشف عن الوجه الحقيقي، قائداً لثورة مضادة، جاءت لتنتقم من ثورة يناير، وتزيل آثارها، فكان لزاما أن يظهر الوجه الذي يطمئن الجمهور الحقيقي لانقلاب الثلاثين من يونيو 2013، وهم بالأساس تلك الطبقة التي ترعرعت في عز فساد واستبداد حسني مبارك، وهي طبقة واسعة، ترفض الفساد قولا، لكنها ترضى به فعليا، بعد أن قننته سياسات مبارك الاقتصادية والاجتماعية، وتحفل الذاكرة بعديد من التصريحات والفتاوى لرجال دين، أجازوا الرشوة حلاً للمشكلات المعطلة، لدى الدوائر الحكومية.
ولم يستخدم السيسي القناع المباركي داخليا، فقط، بل لجأ إليه في إدارة علاقاته مع عواصم عربية، كانت تفضل مصر المباركية الضئيلة، ضخمة الحجم، صغيرة القيمة، التي تمنح الواقف أمامها شعورا بالعظمة، وبهذا نجح في استدرار الأرز.. كما كان وجه مبارك هو العملة التي لولاها لما استطاع السيسي الاستثمار في سوق السياسة الإسرائيلية، مقدما نفسه في هيئة "الكنز الاستراتيجي" الذي نجح الربيع العربي "الشرير" في تجريد الكيان الصهيوني منه.
وبالورقة المباركية، تربح السيسي ماليا واقتصاديا من عرب الانقلاب، وتكسب سياسيا ودبلوماسيا من إسرائيل، حتى بدا وكأنه طائر هجين، له رأس صهيوني، وجناحان عربيان خليجيان.
وبقيت ورقة السادات، يخرجها السيسي ويلعب بها في المحافل الدولية، عارضا نفسه وريثاً لتركة السادات السياسية والفكرية في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، تلك التركة التي أوصلت السادات إلى "نوبل للسلام"، ووضعته مع مناحم بيغن، ثنائياً متجانساً ومتناغماً، فيما يخص الرغبة والرؤية، لدى أميركا والغرب لإدارة القضية الفلسطينية.
بهذه الورقة، وبهذا الوجه الساداتي، المستعار، ظهر الخديوي عبد الفتاح السيسي في احتفالية التفريعة الجديدة لقناة السويس، نصف ساداتي، نصف مباركي، ونصف عسكري ونصف مدني.
على أن "الرئيس النصف" في وجوهه الثلاثة، الناصري والساداتي والمباركي، يبدو كنسخة منخفضة القيمة، من الوجوه الثلاثة الأصلية، وكأنك أمام أحد منتجات الهندسة الوراثية، وكأنهم وضعوا فيه أسوأ ما في عبد الناصر، والسادات، ومبارك، وطرحوه في سوق، تشبه سوق "اسبرطة" حيث العملة الرديئة تنجح دوماً في طرد العملة الجيدة من الأسواق، وليس أفضل من هذا، مناخا، لكي تنتعش تجارة الأوهام، وتطير الحقائق مع دخان الهلاوس والأكاذيب القومية الملونة.