الرئيس مسؤول وليس منحة إلهية
ليست الهزيمة وحدها جواباً عن سؤال السياسة، إنّما تفاعلات الواقع، في مصر والإقليم والعالم، وما تغيّر أو ذهب ولن يعود بسهولة، من وعي الناس بالثورة وصلاحيتها للحكم والتغيير. يحتاج قطاع كبير من المعارضين المصريين إلى "مذاكرة" هذه البديهية، وما ترتّب عليها، ولا يعني ذلك أنّ ثورة يناير انتهت، بل إنّ هذا الجيل من ثوار يناير لم يعد، في حدود إمكاناته وظرفه، هو صاحب "المستقبل". ثمّة جيل آخر، أصغر، تلقّف ذلك كله منا، وعنا، وسيأتي وقته، الآن نحن أمام اختبار السياسة، الأصعب، وإمكانية تحريك الوضع الحالي، الأكثر بؤساً في تجربتنا، وتجاوز أزمة الدولة المؤجّلة إلى صيغةٍ أقرب إلى الدولة، وإن لم تكن كما نريدها ونتمنّاها. تابعت حوار المعارض المصري ورئيس حزب الكرامة أحمد الطنطاوي، على "سي أن أن"، وكان أبرز ما قاله من "كلام مرتب" استعداده للحوار مع السلطة، رغم ما سبق، وهو ثقيل، وتبنّيه، مع الجبهة المدنية الديمقراطية، مطلب أن يكون الحوار برعاية مؤسسة الرئاسة، بوصفها الجهة الوحيدة في مصر (مع الأسف) التي تمتلك قدرة وفاعلية على إنجاز ما تلتزم به، إنْ أرادت طبعاً.
يشترط بعض أطراف المعارضة المصرية شروطاً معقولة ومقبولة لإجراء حوار وطني حقيقي، يتجاوز الشعارات إلى السياسات، واللافتات إلى الممارسات، ويبالغ بعضُهم في تقدير قوته، أو مدى حاجة الدولة إليه في الظرف الراهن، ويتصرّف كما لو أنه هو الشخص نفسه في 2011، القوة نفسها، والفعالية نفسها، والتأثير نفسه، وهو ما أعجبني أيضاً في حوار الطنطاوي، المشار إليه، حيث قرر بوضوح أنه لا معلومة بخصوص مدى حاجة الدولة إلى هذا الحوار. وليس جديداً على أحد أنه لا أحد يعلم شيئاً في مصر سوى السلطة، ولا معلومات عن أي شيء سوى ما تسمح به السلطة. وعليه، فإنّ الحوار المرتقب فرصة محتملة، ورفض استغلالها، أيّاً كانت، أو التعالي عليها، رفاهية لا تملكها المعارضة المصرية، كما أن تقديم شروطٍ استباقيةٍ لخوض الحوار، على طريقة إما كذا وكذا أو لا حوار، ليس مفهوماً، وليس متاحاً، والحال هو الحال.
هل يعني ذلك أنّه حوار إذعان، متحدّث و"سمّيعة"، ليس لهم أو عليهم سوى التهليل والتكبير، وأنّ الحوار منحةٌ من السيد الرئيس، وليس حاجة ملحّة لدى الطرفين؟ الإجابة، في تقديري، لا... تحتاج الدولة إلى الحوار مثل ما يحتاجه معارضوها المهدّدون بالسجون والمعتقلات، وغيرهم. ويحتاج الرئيس، تحديداً، إلى هذا الحوار، ربما أكثر من معارضيه. وأشير هنا، على سبيل المثال، إلى ما حدث في الأيام الأخيرة من استجابة قطاع كبير من المصريين (ومنهم مؤيدون للنظام الحالي)، لكلمة جمال مبارك أخيراً. أغلب التعليقات أشارت إلى قدرة مبارك الصغير على أن يبدو ملء كرسيه المتخيّل، والذي لا يجد الآن من يملأه. لم ينس المصريون مبارك وعائلته، وما عانوه على أيديهم، لكنّها أزمة السلطة الحالية تنعكس على تعليقات المصريين على أي حوارٍ لأيّ منافس محتمل، سلطة تحتاج إلى إعادة تبرير نفسها... وجودها... استمرارها، ورئيس يحتاج إلى خطابٍ مختلف، حتى مع مؤيديه، فلم يعد ممكناً أن تكون الإجابة عن سؤال الاقتصاد "اصبروا كما صبر الصحابة (والتابعون!) مع النبي"، فلا الرئيس نبي، ولا النبي كان رئيساً. ولو أردنا استدعاء لغة السياسة، على خطورتها، لقلنا إنّه، صلى الله عليه وسلم، كان ثائراً، وداعياً إلى التغيير، وليس العكس، (أو السيسي)...
لم يعد ممكناً أن تكون الإجابة عن سؤال المعارضة "ما تحطّش رجل على رجل وتتكلم"... سؤال الإعلام اسمعوا "كلامي أنا بس". سؤال الماء وسد النهضة "بطّلوا هري وعيشوا حياتكم".. سؤال التراب الوطني وبيع جزيرتي تيران وصنافير "مش عايز أسمع كلام في الموضوع ده تاني".... سؤال المعتقلين "ماعندناش معتقلين"... سؤال الفشل في أغلب الملفات "ثورة يناير هي السبب". يحتاج الرئيس أن يتصرف كمسؤول، إذا أراد أن يستمر كمسؤول. من هنا نبدأ، إذا أردنا، حقاً، أن نستمر.