الرابطة العربية والجوار الإسلامي
يبدو أن علاقة العرب بأنفسهم ومخزون هويتهم الجمعي يشوبه قدرٌ غير قليل من الاضطراب والتوتر، ما زال يلقي بظلاله على واقع العرب وأحوالهم الراهنة، وهو أمرٌ مفهومٌ لاعتبارات تاريخية وسياسية معلومة، فقد نشأ التوجه القومي، بادئ الأمر ومنذ أواسط القرن التاسع عشر، بين الإصلاحيين الإسلاميين، بعدما نافحوا طويلا عن الرابطة العثمانية المشتركة في مواجهة الضغوط السياسية والعسكرية للقوى الأوروبية الصاعدة، وتبلور ما عرفت وقتها بالجهادية الإسلامية. دافعوا بحماسةٍ منقطعة النظير عن التآخي العربي التركي، وحماية ما سموها بيضة الإسلام المهدّدة، إلا أن الأوضاع الدولية وتطورت الأحداث في السلطنة كانت أكبر منهم ومن تطلعاتهم. ومع صعود النزعة الطورانية، ثم عمليات تعقب العروبيين الشوام، وتنكيل جماعة مدحت باشا بهم أواخر القرن التاسع وبداية القرن العشرين، تشكّل جيلٌ جديدٌ من القوميين يعطي الأولوية المطلقة للرابطة العربية على كل الاعتبارات الأخرى. ومن هنا، بدأ يتبلور فراق تاريخي مؤلم بين مكونات العثمانية، وخصوصا بين العرب والترك، وانتهى الأمر إلى أن يأخذ كلٌّ سبيله، ويحدّد مصائره، ويبني سردياته السياسية والأيديولوجية وفق سياقاته ومصالحه الخاصة.
والحقيقة، إذا تجاوزنا التفاصيل التاريخية بشأن علاقة العرب بالأتراك، فثمّة حقيقة صلبة، فرضت نفسها منذ بداية القرن الثامن عشر، لا يمكن تجاهلها أو القفز فوقها في أي حال، وهي أن العرب والترك وشعوب البلقان وغيرهم كانوا جزءا من حالة ثقافية وسياسية عالمية، تتسم بصعود القوميات ومفاهيم تقرير المصير على أنقاض الإمبراطوريات القديمة المنهارة. وبغضّ النظر عن نوعية الخلاف والجدل الذي كان وما زال قائما بين المؤرخين والمفكرين السياسيين بشأن فكرة القومية وأصلها وفصلها، وما إذا كانت مجرّد صناعة مستحدثة من الدولة، أو هي بناء متخيل بالأساس، أو بناء تراكمي على معطى الإثنيات التي تمد عروقها في التاريخ، أو هي قومية دستورية على طريقة الفيلسوف الألماني، هابرماس، الثابت في ذلك كله أنها أكثر الحقائق السياسية صلابة ومقاومة في عصرنا الراهن، بما يفوق قوة الأيديولوجيات والعقائد والأديان.
ولا يخفى على أحد أن مسار العرب الحديث كان الأكثر وجعا ودرامية من غيرهم، حيث انتهى بهم المطاف إلى كياناتٍ مبعثرة، تتقاذفها لعبة الأمم والصراعات البينية والانقسامات الطائفية والعرقية، ولم يحققوا شيئا يذكر من طموحاتهم القومية. الشام موطن العروبة ومهد حلم الوحدة العربية يسير اليوم نحو مزيد من التمزّق، العراق موحّد ظاهريا، ولكن الانقسامات الطائفية والعرقية والتدخلات الخارجية تنخره، السودان انقسم بين شمال وجنوب، وهو معرّض لما هو أكثر، ليبيا نفسها مهددة بالتقسيم.
الايراني، بما في ذلك الإسلامي، هو قومي بشكل أو بآخر، على الرغم من بروز المعطى المذهبي الشيعي
وحدهم العرب انتهوا إلى حالة من التبعثر السياسي الهائل، على الرغم من وجود رباط لغوي وثقافي ومخيال مشترك. واليوم، مع تتالي مسار الانحدار والتفكك، يبدو أن غاية المنى أن يحافظ العرب على كياناتهم القُطرية الهشّة من أصلها، وألا يمعنوا أكثر في مزيد التشرذم والانحدار إلى ما دون الدولة "الوطنية".
خلافا لذلك، تمكّن الإيرانيون من انتزاع نواة قومية متماسكة نسبيا، تضمّ قومياتٍ مختلفة مع غلبة العنصر الفارسي. خرج الأتراك منهزمين من الحرب العالمية الأولى، وخسروا أراضي كثيرة، لكنهم استنقذوا نواة صلبة في قلب الأناضول. أسس الباكستانيون قومية إسلامية متمايزة عن أقرانهم الهنود في شبه القارّة الهندية. أما العرب فقد انتهى بهم حلم المملكة العربية الكبرى التي كان من المنتظر أن تضم في البداية الحجاز وبلاد الشام والعراق، وتتوسع نحو ضم بقية العرب، انتهى بهم المطاف إلى مملكة صغيرة في صحراء الأردن، بعدما عبث الإنكليز بالشريف حسين وأبنائه وبدّدوا طموحاتهم... نخلص من ذلك كله إلى خلاصاتٍ لا بد من البناء عليها، إذا أراد العرب إنقاذ وضعهم، واستعادة قدر من تعافيهم السياسي وتوازنهم التاريخي المفقودين.
أولا: يجب أن يكفّ العرب عن التعامل مع فكرة الرابطة العربية برفض أو زهد، لأن المعطى القومي حقيقة راسخة، بما في ذلك في المجال العربي الإسلامي. كل أمم العالم تتعايش اليوم بشكل "ودّي" مع قوميتها، وتجلّ لغتها من دون حرج أو توتر، فلماذا يُطلب من العربي أن يقطع مع عروبته، أو أن يكون انتسابه للإسلام بديلا عن شعوره وطموحاته القومية المشروعة. والحقيقة أنه ليس من أمةٍ تعبث بلغتها، وتبدّد ما بين أيديها من أرصدة رمزية (فضلا عن الأرصدة المادية المعلومة) بحجم ما نراه اليوم عند العرب.
على الرغم من أن الدولة القُطرية كيان هشُّ وكسيح، وبلا طموح ولا أفق، في عالم يتّجه إلى التكتلات الكبرى، إلا أنها مع ذلك اكتسبت نوعا من الشرعية
الايراني، بما في ذلك الإسلامي، هو قومي بشكل أو بآخر، على الرغم من بروز المعطى المذهبي الشيعي. وهو إلى جانب ذلك يجلّ لغته الفارسية، ويوليها عناية فائقة. والتركي، بما في ذلك الإسلامي، تشكل وعيه السياسي حول معاني الأمة التركية بدرجة أولى. وقس على ذلك الماليزي والإندونيسي، فلماذا يُطلب من العربي أن يتجرّد من فكرة الرابطة العربية؟
ثانيا: على الرغم من أن القومية معطى قوي وفاعل في عصرنا الراهن مثلما ذُكر أعلاه، إلا أنه بالقدر نفسه لم يعد من الممكن اليوم الدفاع عن قومية مغلقة وعقائدية ومتعصبة، كما هو شأن الأتاتوركية في تركيا أو البعثية في العراق وسورية. الأمر المسلم به أن اللغة المشتركة تصنع وشائج قربى وصلات سحرية خاصة، فما الذي يجعلني، أنا التونسي القادم من شمال أفريقيا، أشعر برباط خاص يشدّني بالعراقي والشامي والسوداني؟ هل هناك عامل أكثر قوة هنا من ذلك الرباط السحري والخفي الذي تصنعه اللغة المشتركة، وما يتصل بها من مشاعر ومخيال مشتركيْن، يتخطى معطى الجغرافيا والإثنيات، وحتى الأديان؟
من هنا تتأتّى ضرورة إرجاع القومية إلى حجمها الطبيعي، باعتبارها رابطة سياسية وطموحا تاريخيا مشروعا، وليست أيديولوجيا ولا دينا ولا عقيدة كما يزعم القوميون العرب. ولذلك يجب أن تجرّد القومية العربية من ادعاءاتها الأيديولوجية الكبرى التي أضفاها عليها القوميون العرب، بزعم إنها تعطي نظرية في الفكر والاجتماع والسياسة وكل شيء، على طريقة ميشال عفلق وساطع الحصري وزكي الأرسوزي وغيرهم.
انتهى المطاف بالعرب إلى كياناتٍ مبعثرة، تتقاذفها لعبة الأمم والصراعات البينية والانقسامات الطائفية والعرقية
ثالثا: على الرغم من أن الدولة القُطرية كيان هشُّ وكسيح، وبلا طموح ولا أفق، في عالم يتّجه إلى التكتلات الكبرى، إلا أنها مع ذلك اكتسبت نوعا من الشرعية نتيجة عوامل كثيرة، منها شرعية التحرير، ثم الهندسة السياسية الثقافية للدولة ومصالح النظام الدولي. ولذلك من الأهمية بمكان الحفاظ على هذا الكيانات على ضعفها، والحيلولة دون مزيد انتكاسها إلى ما هو أدنى، لأن ما هو مطروحٌ على عرب اليوم ليس التقدّم باتجاه مزيدٍ من الوحدة والتكامل، بل السير نحو مزيد من التذرّر والتمزّق، وهذا يعني حماية هذه الكيانات الوطنية، مع العمل على تطويرها ودمقرطتها ما أمكن.
مع ذلك، لن يقوى العرب على التغلب على وهنهم ودخول مغامرة التاريخ، من دون تكامل عربي مصحوب برؤية ومشروع وطموح مستقبليين. فكما أن القومية المنغلقة والمتعصبة لا أفق لها، فكذلك الأمر بالنسبة للانحسار في الكيانات القُطرية الضيقة والضعيفة.
رابعا: الحاجة إلى مشروع عربي متفاعل مع محيطه الإسلامي الواسع، وخصوصا مع الجوار الإسلامي المباشر. وفي مقدمة ذلك الترك والإيرانيون والباكستانيون، مع مراعاة واقع التنوع الديني والإثني والثقافي في المنطقة، إذ من المسلم به أن منطقة الشرق هي خزّان التنوع الإثني والمذهبي والديني، ومن يقفز على هذه الحقائق لن يجلب إلا الخراب والحروب الأهلية.
الخلاصة من ذلك كله أنه لا سبيل لنهوض الإسلام من دون نهوض عربي فاعل، لأن العرب هم مادة الإسلام ومعدنه، على ما يقول ابن خلدون. ولكن يتوجب الانتباه إلى أن القيادة ليست تشريفا أو وراثة طبيعية، بل هي اختبار وطموح وحمل رسالة، وإذا لم ينهض العرب بهمتهم التاريخية الكبرى، ويتخلصوا من وهنهم وعجزهم، فليس من حقهم منع بقية أمم الإسلام الكبرى من تحمّل مسؤولياتها في قيادة الوضع العربي والإسلامي.