الرواية الفلسطينية في كنيسة المهد
يخلو إيجاز رئيس لجنة جوائز فلسطين في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية لعام 2022، فخري صالح، كما تلاه في مؤتمر صحافي مع وزير الثقافة الفلسطيني، عاطف أبو سيف، الأسبوع الماضي في رام الله، من حيثيات نيْل من استحقّوا هذه الجوائز عن أعمالٍ لهم محدّدة (مُنح وليد سيف جائزة فلسطين التقديرية عن مجمل أعماله)، غير أن في وسع قارئ الرواية الخامسة للأستاذ في جامعة بير زيت، وليد الشرفا، "أرجوحة من عظام" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2022) أن يحدِس بحزمةٍ من الأسباب، تسوّغ نيله عنها جائزة الآداب (مناصفةً مع الشاعر خالد جمعة عن مجموعته "قمرٌ غريبٌ فوق صانع النايات")، أولها ذهابُ هذا العمل إلى منطقةٍ شحيحة الحضور في المدوّنة الروائية الفلسطينية، الفضاء المسيحي الكنسي في السرود عن الكفاحية النضالية الوطنية الفلسطينة. وذلك باشتغال هذه الرواية، المكثّفة في حكيها، والغزيرة المعاني والإيحاءات والمرسلات في ظلال لغتها ومبناها، على واقعة حصار جيش الاحتلال كنيسة المهد في بيت لحم 39 يوماً في عام 2002، لمّا اعتصم فيها مقاومون فلسطينيون ومدنيون ورُهبان، وسقط ثمانية شهداء وأصيب جرحى. وثاني ما قد يخمّنها واحدُنا من أسباب تكريم هذه الرواية، الالتباس الجماليّ الحادث فيها. فمن سؤالٍ يبقى، ربما، بلا إجابة قاطعة، عن صلة السارد الراوي بالمكان، وما الذي جاء به، فعلاً، إليه، هل هو كتابته سيناريو، وهو مخرجُ مسرحيٌّ على ما قد توحي مقاطع أولى من الرواية، ولن تعرف إنْ كان مسيحياً أو مسلماً، إلى أسئلةٍ أخرى بشأن تداخل سردٍ بسردٍ آخر ينطقُ به غير راوٍ، وأسئلةٍ مفتوحةٍ بشأن نهايةٍ لحصار الكنيسة، غير معلومةٍ تماماً في "سيناريو" تقرأه أنتَ، في الرواية، مقاطعُ منه موصولةٌ ببعضِها، وأخرى متقاطعة، وثالثةٌ غير متّصلةٍ في بعضٍ آخر منها. وفي الوسع هنا أن يُفتحَ قوسٌ خاصٌّ عن حذاقةٍ باديةٍ في "اللعبة"، ذات السمْت التجريبيّ المُتقن، في المبنى الذي تنهضُ عليه "أرجوحة من عظام". وثالث الأسباب، وهو ليس آخرها، الذي يجيز استحقاق رواية وليد الشرفا جائزتَها، أنها شاقّة، صعبة، مُتعبة. لا تيسّر لقارئها حدّوتَها أو محكيّتها بإيقاعٍ هيّن. وإذ يُحسَب هذا الأمر من بابٍ إبداعيٍّ في الكتابة نفسها، في شروط الخروج على كل تقليديةٍ مطروقة، إلا أنه أيضاً، في محمَلٍ آخر، موصولٌ بالمسألة العويصة، الصعبة، الشاقة، التي تنشغل بها الرواية، وهي ليست فقط حصار كنيسة المهد، ومن كانوا فيها، قبل 20 عاماً، بل أيضاً عن صراع الفلسطيني مع المحتل، أي القضية الأصل، وهذا حاضرٌ، بخفاءٍ وتجلٍّ، بمرموزٍ وبما هو واضح، في سطور الرواية وانتقالات حكيها من موضعٍ إلى آخر.
ليكن القول هنا، إذاً، هو شكر اللجنة التي تولّت قراءة الأعمال المتنافسة، وهي 18 في فئة الآداب، كما أفاد إيجاز فخري صالح، لأنها دلّتنا على هذه الرواية التي تُحرِز لنفسها موقعاً متقدّماً في كتابة التراجيديا الفلسطينية المديدة، عندما تنتقي من خيط الدم في هذه التراجيديا تلك الموقعة في كنيسة المهد، بالاستثنائية التي تشعّ منها. وعندما ترمي ما أبداه المقاومون والرّهبان والمحاضرون في المكان المقدّس من بسالةٍ في متن الرواية الفلسطينية. حضر الوجع في حكيٍ شفّاف، متوتّر، متقطّع. وحضرت جثثٌ. وعوينت عظامٌ تتأرجح لمّا أصيب "أبو سلام"، المحاصَر في الكنيسة، برصاصةٍ في عنقه التي كان قد مدّها ليرى ما أراد أن يراه، فترتطم كتفُه اليسرى بأرضية الكنيسة. وتتابَع حكيُ عن موتٍ وشناعات، عن مفاوضاتٍ، عن طعمٍ للماء لم يكن عادياً، عن عشرات الأجساد المنهَكة (من الجوع) والمكدّسة، عن صوت أنين "أبي عدي" مع كل شهيقٍ وزفير، عن "جلسةٍ مع أرواح الميّتين"، كما يرى كاتب السيناريو قيد الإنجاز، الراوي، جلستَه عند الصومعة مع "حنّا".
روايةٌ تحتشد بدمٍ مضيء في كنيسة. تختتم أنفاسها اللاهثة، أو مقاطع حكاية الصمود والثبات، بسجالٍ بين الإسرائيلي إيلي، الذي لا تعطيه الرواية صفتَه هذه، تُخبرنا بحمله الرشّاش عند الحاجز، والراوي الذي يأتي بترابٍ من دارِه للقدّيس سابا، ثم ينتهي المشهد بانحدار اثنيهما بسيارتيهما في الوادي، بعد اصطدامهما عندما يُطلق إيلي الرصاص. "يبدأ بالبكاء وأنا بالصراخ". وفي الختام "وحدَها عينُه تبدو جاحظةً ثابتة، وقد اندفعت من مكانها، أسمع صوت الطائرة، لأقول لإيلي: التعويذة في رقبتي، ولن تنفعك الطائرة، يضيق نفَسي، أصعدُ في الغيم، لا صوت ولا ضوء...".
للفلسطينيّ أن يبقى عالياً في الغيم. ... ولروايةٍ حافلةٍ بلغة الألم أن تحظى بجائزة فلسطين.