الرياضة المُنوِّمة
لمّا كنتُ طفلاً بريئاً أعيش قريرَ العين في قريتي الصغيرة بوعجول، الرابضة بين هضاب قبيلة بني زروال الجبلية التابعة لمحافظة فاس الكبرى في المغرب، كان يحلو لي في يوم السوق الأسبوعي لتلك المنطقة، الذي يصادف يوم الأحد، أن أذهب مع أترابي لمشاهدة حلقة رجل غريب كان يربح قوتَ يومه بشكل فريد من نوعه. ذلك أنّه كان يقف في مكان بعينه، ويبدأ في إخراج زوجَين من قفَّازات الملاكمة من قِرابه، زوجاً بلون أحمر وآخرَ بلون أزرق، ثمّ يشرع في المناداة على المتنافسين بكلام مُقفَّى فيه حماسة وتشجيع على البطولة والرجولة.
وبما أنّه كان يعرف كيف يلعب بأحاسيس الأطفال، فإنّه لم يكن يعوزه أن يجد غريمَين يتحرّقان شوقاً لتصفية حسابات قديمة بينهما. وهكذا يلبس الطفل الأول قفَّازين وذاك الأخريين، ثمّ تبدأ المعركة تحت إشراف الرجل الذي كان يشجّع هذا على ذاك، ثمّ يحرّض ذاك على هذا، إلى أن تسيل الدماء من الأنوف المرضوضة وتختلط بلعاب الأفواه المجروحة، فيوقف المباراة في وقتها المناسب رافعاً يدَ المنتصر إلى السماء، وواعداً المنهزم بنصر قريب. ليبدأ بعدها في جمع الدريهمات من المتفرّجين، ويعمد بعد ذلك إلى إدخال غريمَين آخرَين، وهكذا دواليك... إلى أن يحين المساء فيجمع قفَّازاته الملوَّنة ويغيب عن الأنظار كشيطان قضى وِطرَه بإشعال الفتنة بين أطفال سذَّجٍ، وأفلح بربح مالٍ مُعتبَرٍ على ظهورهم ومن دمائهم.
يلخّص هذا المشهد، على بساطته، ما وصلت إليه الدول العربية من تناحر فيما بينها تحت إشراف الغرب الخاسئ، وحليفته المُدلَّلة كيان الإبادة الجماعية. وبما أنّ ذلك صار مستشرياً في الأصعدة جميعها، فلنتكلم اليوم عن الرياضة، وضمنها الساحرة المدوَّرة كرة القدم. في إحدى نسخ كأس أفريقيا سنة 2014 حسب ما أتذكّر، شاهدتُ مباراةً بين المغرب والرأس الأخضر في فندق في تونس، فخُيل لي أنّي أشاهد المباراة في المغرب سواء بسواء، فالجمهور التونسي كان يتفاعل مع أحداث المباراة ويُشجّع الفريق المغربي بالحماسة والاندفاع اللذين كان يُشجّع بهما فريقه الوطني عندما كان يُقابل فرقاً أفريقية أخرى. وفي سنة 2019، لمّا قابل الفريق الجزائري غريمه السنغالي في مباراة النهاية، وتوّج في القاهرة بطلاً لتلك النسخة، غمرت الفرحة قلوب جميع المغاربة، حتّى أنّ منبهات السيارات ظلَّت تزعق ليلةً كاملةً في أهم شوارع المدن الكبرى، وكأنّك في وهران أو قسنطينة أو في عاصمة الجارة الشقيقة.
إيمان خليف، البطلة الصاعدة من أعماق المجتمع الكادح في الجزائر، حصلت على الذهب وأخرست الألسنة التي تنمّرت عليها
وفي كأس العالم في قطر، إذ وصل المغرب للمرّة الأولى في تاريخ كرة القدم الأفريقية والآسيوية إلى المربّع الذهبي، اتّحدت قلوب العرب والأفارقة ودول العالم الثالث اتّحاداً لم أرَ له مثيلاً طول حياتي، فلم يعد هنالك إلّا قلبٌ واحدٌ يخفق، وحنجرةٌ واحدةٌ تصيح، وقبضةٌ واحدةٌ تشير إلى السماء ودموع فرح فيّاضة اتّحدت جميعها في سيلٍ عَرَمْرَم لتسيل من عين كبيرة رمضاء واحدة، عين المضطهدين والمقهورين كلّهم عبر العالم الثالث، ودول الجنوب كلّها خارج المركز الرأسمالي الغربي.
لقد حرَّكت كرةُ القدم وقتذاك مشاعرَ عارمةً جيّاشةً كانت مدفونةً في صدور شعوب عربية تصحَّرت من فرط الإحباطات والنكبات، وفجّرت من أحاسيس الفرحة والحبور ما لم يستطع القادة العرب كلّهم تفجيره، خلا نقيض ذلك من مختلف الكوارث والأزمات. فما الذي حدث منذ تلك اللحظة؟... حدثت أشياءُ كثيرة مُخزِية يندى لها الجبين، إذ ازدادت كرة القدم في أمتنا العربية تلوّثاً بالسياسة والأيديولوجية، إلى أن أصبحت كلّ مباراة تخوضها فرقة من الفرق العربية معركة طاحنة تتقاتل فيها، على البساط الأخضر والقنوات التلفزية وغيرها من قنوات الصرف الاجتماعي، جيوشٌ شقيقةٌ مجيَّشَةٌ بالضغائن والأحقاد، وكأنّي بها حرب داحس والغبراء في ساحات وغى الجاهلية الأولى، يفتك بعضها ببعض من دون رحمة ولا هوادة ولا مراعاة لأبسط قيم الدين والثقافة والتاريخ المشترك.
ظهر ذلك جليّاً، وبكيفية مُخزِية في كأس أفريقيا للأمم أخيراً، وظهر مثله في الحملة الشعواء التي شنَّتها وسائل الإعلام والدعاية الغربية على البطلة إيمان خليف، التي شرَّفت الجزائر والعرب، ودخل في خطّ هذه الحملة غير المسبوقة مسؤولون ينتمون إلى اليمين الغربي الفاشي، مثل رئيسة وزراء إيطاليا وترامب وغيرهما، قبل أن تتلقَّفها مواقع الذباب الإلكتروني "العربية" وتدويناتها، لتوغل في تعميق الجراح بين الشعب الواحد في المغرب والجزائر. لكنّ حصول تلك البطلة الصاعدة من أعماق المجتمع الكادح في الجزائر على الذهب أخرس الألسنة كلّها، وكان خيرَ ردٍّ لها في الميدان، وافتخر العرب بميداليتها الذهبية، وبتحدّيها للتنمّر الرأسمالي الغربي.
لا فضل لفريق على آخر سوى بطبيعة الهزائم وملابساتها، ذلك أنّنا خرجنا كلّنا على قدم المواساة من الباب الخلفي
ولكي نطلّ على هذه المأساة من فوق، ومن دون أن نتحيَّز لهذا الجانب أو ذاك، نقول، وبكل موضوعية، إنّنا تدحرجنا إلى أعمق نقطة سحيقة لم يسبق لنا أن لمسناها منذ تاريخنا المعاصر المجلّل بالخصومات والنزاعات والأزمات. لقد كان الأمر مُقتَصِراً في الأول على الأنظمة التي كانت تبرع في تبادل الاتهامات، وتُلقي فشلها على جيرانها لكي تحوّل أنظار شعوبها عن أوضاعها الداخلية المتردّية. أمّا اليوم فقد تعمَّم كلّ شيء، وصرنا نرى جزءاً مُقدَّراً من الجماهير العربية يتمنى في سرّه وعلانيته الخسران الرياضي بعضه لبعض، ما يدل على أنّ أعداءنا قد نجحوا نجاحاً باهراً في تشتيت شملنا، وإلهائنا بكلّ ما هو غثاء وسقط متاع.
حين يرى واحدُنا بعض المشاهد السخيفة التي تنقلها شاشات التلفزيونات العربية ومواقع تواصلها الاجتماعي، إمّا للتشفي في فريق عربي غريم انهزم أو في بطل لم يوفَّق في الانتصار ووصول مرحلة التتويج، أو لأجل إبراز حجم الإحباط الذي أصيبت به جماهيرها هي بعد خروج مُبكّر من التنافس، وذلك من قبيل إظهار شيخ هرم يبكي ويلطم وجهه الأشيب النحيف بسبب فشل فريقه، أو مشاهدة صحافي مُتعصّب مجنون يتطاير بصاقه في الاتجاهات كلّها، وهو يصرخ على "البلاتو" بهستيرية رعناء، متحدّثاً تارّةً عن وصمة العار التي أصابت وطنه، وتارّةً أخرى عن نظرية المؤامرة التي ذهب ضحيتها فريقه، لتبعث على الأسى والحسرة والأسف، وتعطي الدليل على أنّنا فقدنا البوصلة، ولم نعد قادرين على ترتيب أولوياتنا في هذه الظروف الدرامية، التي نجحت أنظمتنا المتسلّطة في تحويل انتباهنا عمّا يجري في غزّة العزّة من تقتيل وتدمير جماعي مُمنهَج، رغم المكتسبات الكبيرة التي حقَّقها "طوفان الأقصى" للقضية الفلسطينية، التي كادت تغادر إلى دائرة النسيان من دون رجعة.
تُرى، ماذا كان سيطرأ لو كانت هذه الحماسة الشديدة كلّها، وتلك الغيرة الملتهبة كلّها، وذاك الاندفاع المحموم كلّه، من أجل نصرة قضايا أمتنا المصيرية ومواجهة التحدّيات الحقيقية التي تنتصب في وجهنا من قبيل التخلّف والجهل وتحقيق العدالة والحرّية والكرامة ودعم صمود فلسطين؟
السرّ في احترام كرامة المواطنين، وفي استراتيجية رياضية ترتبط فيها المسؤولية
وها نحن ذا قد وصلنا جميعاً إلى نهاية مشوارنا العربي في أولمبياد باريس، وخرجنا مطأطئي الرؤوس منكّسي الهامات، لم تحصّل أقطار الوطن العربي مجتمعةً غير حصيلةٍ ضئيلةٍ من الميداليات لا تتجاوز سبع ذهبيات، حصلت عليها سبع دول عربية ضمن 17 ميدالية ملوَّنة أخرى. وهو رقم مضحك مقارنةً بما حقَّقه بلد صغير اسمُه نيوزيلندا، المُكوَّن من جزرٍ لا تتعدَّى مساحتها ثلث مساحة المغرب، وعدد سكّانه لا يتجاوز خمسة ملايين نسمة، أي أقلّ من نصف سكان تونس، لكنّها حصلت على عشر ميداليات ذهبية وسبع فضّيات وثلاث برونزيات، لتحتلّ الصف الـ11 قوّةً رياضية عظمى. إذ السر في احترام كرامة المواطنين، وبناء استراتيجية رياضية ترتبط فيها المسؤولية بالمحاسبة، ويتحملّ فيها مسؤولو القطاع الرياضي المُنتخَبون بطرائق ديمقراطية مسؤولية نتائجهم في الاستحقاقات المُختلفة، ربحاً أو خسارة.
لكن عزاءنا الكبير غير المعلن في الوطن العربي أنّ لا فضل لفريق على آخر سوى بطبيعة الهزائم وملابساتها، ذلك أنّنا خرجنا كلّنا على قدم المواساة من الباب الخلفي. أجل، لقد وصلنا إلى نهاية النهايات، ونجح الصهاينة في إخراسنا وزرع بذور الشقاق بين جماهيرنا، ولم يعد يُشرّفنا غير حفنة من الغزّيين الأحرار، وبعض الشرفاء المضطهدين ممن يملكون شرف الدفاع عن قرابة مليارين من المُحشّشين برياح الرياضة المُنوّمة.