حكيم زيّاش حين يهزم خيار التطبيع
هناك في هذا الزمان من أصبح يصطلح عليهم النجوم، نجوم في الفنّ، نجوم في السينما، نجوم في المسرح، نجوم في مختلف ألوان الرياضات، يعرفهم الناس كما يعرفون أبناءهم، ويتخذّهم الشباب قدوة ومثالاً يُحتذى، حتّى أنّهم يقلدونهم في تصفيفات شعورهم المدهشة، وفي لباسهم المهلهل الغريب، وحتّى في مشيهم وحركاتهم وسكناتهم. والناس في المجتمعات كلّها ألفوا أن يروا أطفالاً يتراكضون في الشوارع وهم يلبسون قمصاناً مرقّمة بأسماء لاعبين دوليين مهرة في كرّة القدم خصوصاً.
اندهشت وأنا في مكّة المكرمة حين رأيت اسم اللاعب الأرجنتيني ميسّي مكتوباً بالصباغة الحمراء على الجدران. ومن الطبيعي في هذا الزمان أنك لو سألت عن عالِم عظيم ساهم في تقدّم البشرية بعلمه الغزير، أو عن آخر من فاز بجائزة نوبل في الآداب أو في أيّ من العلوم، أو حتّى عن عالم عربي ساهم بإبداعاته في تقدّم العلوم الحقّة ماضياً أو حاضراً، لما وجدت بالكاد اثنين أو أربعة من بين مائة ممن يعرفونه أو سمعوا بإنجازاته، وذلك رغم سهولة البحث عنهم بواسطة محرّكات البحث، التي تكفي نقرة واحدة عليها لتعرض لك آلافاً من الوثائق والمعلومات.
وبالرجوع إلى هؤلاء النجوم أنفسهم، لو بحثت عن مواقفهم أو التزامهم بقضايا عربية أو إنسانية، أو لو بحثت في رصيدهم المعرفي، لوجدت أنّه قد يكون بالكاد سطحياً لدى معظمهم أو دون ذلك بكثير، فقد أثر عن فنّانة كبيرة أن قدّم عندها شاعر زجّال يكتب كلمات أغانيها، فنادت على بعض ضيوفها قائلة بافتخار واعتزاز: " تعالوا يا سادة أقدّم لكم الأستاذ فلان الذي يكتب لي الدجل. والله إنّه لدجّال كبير"، ولم تكن طبعاً تمزح بشهادة شاعرنا، الذي أحرجه مرّات عديدة أن يُصحّح خطأها، ويبين لها البون الشاسع بين الزجل والدجل. أمّا فنان آخر عندنا، فقد كان موقفه أدهى وأمرّ، حين سئُل عن رأيه في التطبيع مع العدو الإسرائيلي، فأجاب بأنّه فنّان محايد من واجبه أن ينأى عن الخوض في السياسة، وألّا يكون له بالتالي أيّ رأيٍّ ما دامت الحكومة هي من تتكفّل بالتفكير مكانه، إذ حسب رأيه، وحدها من تعرف أين توجد المصالح العُليا للوطن.
وقد حدث لي شخصياً أن سألت سيّدةً من غير النجوم عن أحوال مدينة الحسيمة في قلب الريف المغربي، وقد كانت قد غادرت الدراسة في مرحلة الثانوية العامّة بعدما تزوّجت موظَّفاً وعاشت معه هناك خمس سنوات فقالت: "الريفيون أناس فيهم كثير من الجدّية والاستقامة، فإمّا أن يحبّوك إن كنت على شاكلتهم، أو أن ينبذوك إن كنت غير ذلك، ولكنّي أعتب عليهم أنّهم يبالغون في امتداح شخص يدعى عبد الكريم". فقلت لها مندهشاً: "أتقصدين بطل الريف، المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي؟". فقالت متسائلةً ببلادةٍ: "ومن يكون ابن عبد الكريم الخطابي هذا؟". فأوشكت من شدّة استنكاري، واستحالة نطحي السيّدة، أن أنطح الحائط. فإذا كان هذا هو واقع الحال عند بعض النجوم عموماً، فإنّ هنالك استثناءات تنقذ ماء وجهنا وتُشفي صدور الغيورين على مستقبل هذه الأمّة العربية الجريحة.
لأنّك أيقونة في الرياضة، فقد أصبحت اليوم أيقونة للشباب الحائر المُضلَّل، تهديه إلى الحقّ المبين
كي لا نذهب بعيداً، كلّنا يتذكّر ماذا حدث في كأس العالم في قطر (2022)، بعد الانتصار التاريخي للمغرب على نظيره الإسباني، إذ رفع بعض اللاعبين المغاربة العلم الفلسطيني، وراحوا يجوبون به الملعب طولاً وعرضاً، وهم في حالة من فرح جنوني لامسَ حدود الهستيريا. تابع الجميع زوبعة الاستنكار التي أثارها هذا الحدث في معسكر الصهاينة، ومن يوالونهم من الأذناب، إذ طلب صهاينة فرنسيون من المغرب أن يُقدّم اعتذاراً رسمياً، كما أنّه وقعت أشياء مشبوهة في مستودع ملابس اللاعبين، فلم يعد اللاعبون المغاربة يرفعون الرايات الفلسطينية بعد مباريات كأس العالم إلّا بكيفية خجولة بفعل فاعل دخل على الخطّ، فألجم حماسة اللاعبين وحرمهم من التعبير عن تضامنهم المطلق مع القضية الفلسطينية. وهذا ما يبدو واضحاً في مجال آخر حين يتغاضى خطباء الجمعة في المغرب اليوم عن ذكر اسم كيان الاحتلال الإسرائيلي، واسم فلسطين، كما كانت تجري العادة، فكانوا يدأبون على الدعاء على الأولين والدعاء للآخرين، وأصبحوا يكتفون بدعاء غامض "لإخواننا المجاهدين في بيت المقدس وفي مشارق الأرض ومغاربها"، ويلتمسون من الله عزّ وجلّ أن يتكفّل بتشتيت شمل "أعداء الملّة والدين" وكأنّ هؤلاء الأعداء أشباح لا اسم لهم، لأنّهم لربّما مخلوقات لامرئية تعيش في كوكب غير هذا الكوكب.
وقد برز من نجوم كرة القدم المغربية، الذين آزروا القضية الفلسطينية من دون تحفّظ ولا تهيّب، اللاعبون أنور الغازي، الذي فسخ ناديه الألماني عقده معه لهذا السبب، ونصير مزراوي وجواد الياميق وبلال الخنوس وحكيم زياش. هذا الأخير بالذات، صنع الحدث أخيراً، وأحدث رجّةً لدى الشباب خصوصاً، والمواطنين المغاربة والعرب وأحرار العالم جميعاً، إذ أصبح اسمه عذب المنطق على لسان المنافحين عن الحقّ كلّهم، وذلك حينما حمل الراية الفلسطينية في حفل تتويج ناديه غلطة سراي، في بطولة الدوري التركي في ملعب غصّ بعشرات آلاف المشجّعين، الذين تفاعلوا معه بشكل حماسي منقطع النظير. كما كتب في الآونة الأخيرة تدوينةً رائعةً رفعته إلى مصافّ المجاهدين بالكلمة الملتزمة العادلة، فكتب بالحرف: "ما يحدث في فلسطين من إبادة جماعية عار على حكومة بلدي وعلى الدول التي تشجّع ذلك. كفى، كفى، ثمّ كفى.. ورسالتي لإخوتي وأخواتي في المغرب وفي كلّ العالم، ارفعوا أصواتكم عالياً: الحرّية لفلسطين".
حكيم زياش هو من يسمّى "النجم" حقّاً الذي يعطي المثل الأعلى لمشجعيه في نصرة مجاهدي غزّة العزّة
هذا هو من يسمّى "النجم" حقّاً، الذي يعطي المثل الأعلى لمشجعيه في نصرة مجاهدي غزّة العزّة، وأبناء الشعب الفلسطيني كلّهم، الذين ما رأت البشرية لا في أوّلها ولا في آخرها ظلماً وعدواناً مورس على شعب كما مورس عليهم. لقد كنت رائعاً يا زياش. وهل يمكن ألا يكون رائعاً من وقف في نصرة فلسطين وقفةً شامخةً. لقد شرّفت نفسك وأسرتك ووطنك وأمتك. ولأنّك أيقونة في الرياضة، فقد أصبحت اليوم أيقونة للشباب الحائر المُضلَّل، تهديه إلى الحقّ المبين، وترفع عن عينيه غشاوة البهتان والزور. لقد قلت كلمتك ومضيت، ولكن الكرة إذا انفلتت من رجلك ومضت مع تقدّمك في العمر، فستبقى في قلوب الناس شعلةً من الحُبّ والتقدير، وقطرةً من العسل المصفّى على اللسان.
إني على يقين صادق بأنّك بتدوينتك هاته واعٍ تمام الوعي بأنّك قد وقعت عقد الطلاق البائن مع الفريق الوطني، ولكنّك تدرك من جهة أخرى أنّك وقّعت عقداً مُقدَّساً مع الكرامة والرجولة والشموخ. ولا يفتّ في عضدك إن تحركت جيوش الذباب الإلكتروني التي تحرّكها الأجهزة واللوبيات المدافعة عن التطبيع مع مجرمي الحرب الصهاينة، مهاجمةً لك ووالغةً في انتمائك وفي وطنيَّتك وفي رجاحة عقلك وفي التزامك بقضايا أمّتك. فموعدنا معك أيها الحكيم في محطّات قادمة أخرى للبطولة والشرف.