السودان .. انقلاب لم يأتِ من فراغ
الانقلاب الذي قام به الجيش السوداني، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، يوم الإثنين الماضي، هو الرابع في أفريقيا هذا العام، بعد انقلابات مالي وتونس وغينيا، وهذه هي المرّة الأولى التي تشهد فيها القارة السمراء هذا القدر من الانقلابات، خلال فترة لا تتعدى ستة أشهر. ثلاثة من هذه الانقلابات قام بها العسكر مباشرة، والرابع الذي حدث في تونس ما كان له أن يتم، لو لم يحصل الرئيس قيس سعيّد على موافقةٍ مسبقةٍ من المؤسستين، العسكرية والأمنية، واللتين لا يجري شيءٌ في البلد من دون موافقتهما المسبقة. والخطير هنا أن الجيش يضع نفسه فوق كل المؤسسات في الدولة، ويقرّر فرض حالة الطوارئ والرؤية التي تناسبه في الحكم، وأول بنودها تعطيل الدستور، وحل الحكومة، وهذا ما اشترك فيه الانقلابان في تونس والسودان.
وعلى الرغم من أن الأوضاع في أفريقيا تلتقي في قواسم مشتركة كثيرة، فإن ما يهمنا هنا هما الوضعان في تونس والسودان، نظرا إلى التقاطعات ما بين هذين الانقلابين اللذين ولدا من رحم الثورة المضادّة. ولا يحتاج المرء إلى دلائل كثيرة كي يبرهن على أن الانقلاب في السودان ما كان له أن يتم لو لم يسبقه انقلاب تونس، وينجح في تعطيل الحياة السياسية في البلد، وما كان للانقلابيْن معا أن يحصلا لو لم تتوفر لهما حاضنة إقليمية كبيرة، مثل مصر التي باتت تشكّل قلعة الثورة المضادّة.
وكما هو الانقلاب التونسي، فإن لدى نظيره السوداني أنصارا في الشارع، ولم يقم البرهان بخطوة حل الهيئات التي جرى التوافق عليها، بعد إطاحة الرئيس السابق عمر البشير، إلا حين أنزل شارعا مؤيدا له، مقابل الشارع الآخر الذي يطالب بالتزام اتفاق المرحلة الانتقالية، الذي وضع ميثاق شراكةٍ بين العسكر والمدنيين حتى عام 2023، والشارع السوداني المؤيد للانقلاب هو انشقاقٌ من بين قوى إعلان الحرية والتغيير، والذي خرج يتظاهر رافعا شعاراتٍ ضد مشاركة القوى الحزبية في الحكم، وبالتالي لم تعد هذه القوى كتلة واحدة، كما كان عليه الأمر في عام 2019، ما يعود إلى سلسلة من الأخطاء التي ارتكبتها القوى المدنية التي فقدت جزءا كبيرا من رصيدها، حين تشاركت مع العسكر في السلطة، في وقتٍ كانت لديها فرصة كي تكمل الثورة لإبعاد المؤسسة العسكرية عن الحكم والسياسة، وعدم الاكتفاء بإطاحة حكم البشير الذي تآمرت عليه بطانتُه، وتخلت عنه حينما رأت مركبَه يغرق، وقفز هؤلاء من على ظهر السفينة إلى كراسي السلطة، وتصدّروا المرحلة الجديدة، مع أنهم شركاء مع البشير في كل الجرائم والفساد ونهب الدولة وتدميرها وتقسيم البلد، وخصوصا الجرائم المترتبة على الحروب الداخلية مثل حرب دارفور، ومن هؤلاء بصورة خاصة قائد قوات الجنجويد محمد حمدان دقلو (حميدتي). وبالتالي، يدفع البلد ثمن الأخطاء السياسية التي قامت بها قوى الحرية والتغيير التي أدخلت الجيش إلى صلب العملية السياسية، حتى أن بعضها طلب من العسكر القيام بانقلاب ضد البشير عام 2019. وهذا أمرٌ يتكرّر دائما في العلاقة بين المدنيين والعسكر، والتاريخ يكرّر نفسه بإعادة إنتاج الأخطاء، الأمر الذي يفسّر سر بقاء الجيش طرفا قويا موحدا.
نجاح المسار الديمقراطي في السودان لا يريح بعض دول الإقليم، مثل مصر وإريتريا وإثيوبيا. ومن هنا، سرت شكوك بأن انقلاب العسكر السودانيين حصل على ضوء أخضر، يتجاوز دول الجوار إلى بعض دول أوروبا ذات الثقل في أفريقيا والولايات المتحدة. ولذلك جاءت ردود الفعل الدولية في غالبيتها غير قاطعة، كما لو أن القوى الدولية تركت خياراتها مفتوحةً، لترى ردّ فعل الشارع في الفترة المقبلة.