السودان ... نظرية المؤامرة ولعبة المقامرة
هل يريد العالم إنهاء الصراع في السودان حقًا؟ كلّ معطيات المشهد السوداني تقول إنه لو أراد العالم فرض وقف دائم لإطلاق النار في السودان لفعل، غير أنّ ذلك لا يحدُث، ليس لغياب القدرة، بل لغياب الرغبة في انتشال السودان من الغرق في قاع التفكّك، أو قل لحضور الرغبة في صناعة جغرافيا جديدة في المنطقة، كما جرى في نهايات القرن الماضي، حيث انفصل جنوب السودان عن شماله رسميًا. تخيّل لو أنّ القوات المرسَلة من دول مختلفة لإجلاء الرعايا من السودان جرى تخصيصها لفضّ الاشتباك وإنهاء القتال تحت مظلة أممية، هل كان يمكن لقائد مليشيا الدعم السريع أن يواصل مغامرته في تمزيق وحدة السودان؟
الشاهد أنّ خلاصة المقاربات الدولية والإقليمية للمسألة السودانية تشي بأنّ ثمّة دعمًا متفقًا عليه لزعيم المليشيا المتمرّدة بغرض منحه صفة اعتبارية تجعله والحكومة السودانية وجيشها النظامي سواء أمام الشرعية الدولية، إذ لا معنى لمفاوضات التهدئة والهدنة بين طرفي الحرب، سوى أنّ الوسطاء على مسافةٍ واحدةٍ بين الطرفين، الخارج على القانون والشرعي، وهذا يعني مباشرة الانحياز السافر للأول.
الطرف الطامع في السيطرة على حكم البلاد، أو اقتسام مساحةٍ منها، يخاطب العالم باللغة التي تطربه، ويغازله بقدرته على أداء الأدوار التي يحبها، ويعرف من أين تؤكل كتف السلطة في الشرق الأوسط، ويتوّجه برسائله إلى من يعنيه الأمر، أي الكيان الصهيوني مباشرة.
ينشر "العربي الجديد" أول أمس (الاثنين) أنّ يوسف عزت، مستشار قائد قوات "الدعم السريع" في السودان محمد حميدتي، اعتبر في لقاء مع القناة الرسمية الإسرائيلية "كان"، إنّ القوات التي يقودها خصمه رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، مثل "الفصائل الفلسطينية الإرهابية التي تقاتل إسرائيل". وقال مستشار زعيم الميليشيا إنّ ما يواجهونه "سبق أن تعرّضت له إسرائيل آلاف المرات من الجماعات الإرهابية، مثل حماس وغيرها من الجماعات التي يعرفها المواطنون الإسرائيليون جيدا".
إذن، نحن بصدد انقلاب صهيوني آخر يتمثل النهج الإسرائيلي في تزييف التاريخ والجغرافيا لصناعة واقع جديد على الأرض، ويمنح الكيان المحتل الفرصة ليمارس دوره في قيادة المنطقة، تحقيقًا لحلم شيمون بيريز القديم المتجدّد، والذي عبّر عنه في كتابه عن الشرق الأوسط الجديد، بالقول "لقد جرّب العرب قيادة مصر المنطقة مدة نصف قرن، فليجرّبوا قيادة إسرائيل إذن".
انتهى المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، في دراسة نشرت في بداية الألفية الحالية إلى أنه "يمكن القول بكثير من الاطمئنان إنّ الإستراتيجية الغربية تجاه العالم الإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيه. وقد غُرست إسرائيل في قلب هذه المنطقة لتحقيق هذا الهدف. فعالم عربي يتسم بقدر من الترابط وبشكل من أشكال الوحدة يعني أنه سيشكل ثقلا إستراتيجيا واقتصاديا وعسكريا، ويشكل عائقا أمام الأطماع الاستعمارية الغربية".
تأسيسًا على ذلك، ليس ثمّة مبالغة في القول إنّ قائد قوات الدعم السريع يبدو الأداة المثالية للاستخدام في تحقيق ذلك التصوّر القديم، ومن ثم لا معنى للتعاطي الرسمي العربي معه باعتباره طرفًا أصيلًا وجزءً من المعادلة السياسية في السودان، سوى السير في ركاب الحلم الإسرائيلي المتجدّد، والذي تعبّر عنه بوضوح دعوة حكومة الاحتلال الصهيوني كلًا من زعيم المليشيا حميدتي وقائد الجيش البرهان إلى الجلوس على موائدها للتفاوض على اقتسام السلطة والنفوذ والثروة في السودان.
باختصار شديد، يتّحد العالم شرقه وغربه الآن على صناعة قضية سودانية، من ذلك النوع الذي لا ينتهي إلا بتغيير الخرائط المستقرّة، اقتتال أهلي ينتج موجات نزوح جماعية، وقضية لاجئين تتاجر بها الدول المضيفة، ودخول في متاهة مظلمة لسنوات نخرج منها وقد تم اقتطاع مساحة أخرى من السودان، من ناحية الغرب، لإنشاء دولة مرتبطة بالكيان الصهيوني أكثر من ارتباطها بمحيطها العربي.
قلت سابقًا إنّ الكلام عن إخضاع الشرق الأوسط، جغرافيا وسياسيًا وتاريخيًا وثقافيًا، للكيان الصهيوني ليس تحليقًا في فضاء نظرية المؤامرة، بل تعبيرٌ عن واقع يتحرّك على الأرض ينطق بأنه يتم تهيئة المنطقة لقيادة مركزية إسرائيلية، لتصبح النكتة الحقيقية هنا أن يبقى عربٌ يتعاركون مع عرب آخرين على الريادة فيما بينهم، بينما يعملون، بمنتهى الهمّة، في مشروع إسناد ريادة (وقيادة) المنطقة كلها لعدوها التاريخي.
مرّة أخرى، الرضوخ للابتزاز لاستبعاد فرضية المؤامرة تمامًا في عالم يسير بلا منطق، ويعيش بلا قيم، ويتعامل من دون قانون أخلاقي، هو بحدّ ذاته تآمر على الذات أو القبول بالمشاركة في هذه المؤامرة.