السوريون في تركيا والعلمانية
لجأتُ، أنا محسوبكم، إلى تركيا في شهر أغسطس/ آب 2012، وأمضيتُ فيها ثماني سنوات. يمكنني القول، ببساطة، إنها أجمل سني حياتي... وأسباب ذلك عديدة؛ منها جمالُ مناخ تركيا، ولذة أطعمتها وتنوّعها، وحسن معشر أهلها، والتحرر الحقيقي الذي يعيشه الناس في غالبية مدنها. وأرى أن مَن يشكّل رأياً سلبياً بالشعب التركي من خلال شخص تَذَمَّرَ من وجود السوريين، أو حزب صغير دعا إلى ترحيلهم، إنما يجانب الصواب، فالاستثناء لا يغلب على القاعدة. لو كنّا، نحن السوريين، قد أتينا إلى تركيا من بلد ينعم بالحرية، لما أدهشنا جَوُّها، ولكن مصدر سرورنا وارتياحنا نجمَ عن أننا هاربون من بلد محكوم بالحديد والنار والجيش والمخابرات وكتّاب التقارير والشبّيحة.
كنتُ، منذ دخولي تركيا، أحذّر أبناء بلدي، في منشورات على "فيسبوك"، من الانخراط في الشأن التركي، أو التدخّل في الخلافات المجتمعية التي تحدُث أمامنا، وألا ننسى أننا ضيوف، وأن وجودنا مؤقت... ولكن، مَن ذا الذي يستطيع إقناع أناسٍ تغلي دماءُ الشباب في عروقهم، ويُسكرهم مناخُ الحرية النسبية الذي راحوا يعيشونه، بالتزام الحياد؟ مع العلم أن اصطفاف غالبيتهم إلى جانب النظام السياسي الحاكم سَبَّبَ لهم مشكلاتٍ، أقلُّها تذمر الأحزاب المعارضة من وجودهم، وإطلاق قادة تلك الأحزاب تصريحاتٍ متلاحقة بأنهم سيُرَحّلونهم بمجرّد ما تسنح الفرصة، لا إلى بلاد أخرى ينعمون فيها بالأمان والكرامة، بل إلى مناطق سيطرة النظام الذي كان، قبل الثورة، يمارس أعمالاً إجرامية مقنّنة ومخفية، وأصبح، بعد الثورة، يمارس الإجرام على نطاق واسع، وبشكل علني.
مناسبة هذا الحديث الانتخابات التركية التي انتهت بفوز الرئيس أردوغان. إنها، في الواقع، تعبير جلي عن إصرار المجتمع التركي على ممارسة التداول السلمي للسلطة، بأريحيّة وسلاسة. ولكن هذه النقطة، ومع الأسف، لا تزال ملتبسة في عقول أبناء الشعب السوري، بل وفي عقول أبناء الشعوب الناطقة باللغة العربية كلهم، فهم يرون أن الديمقراطية ليست ملائمة بمجملها لمجتمعاتنا، ونحن لا يلزمنا منها سوى الانتخابات، فهي ضرورية لإيصال الأكثرية القومية، أو الدينية، أو المذهبية، أو كلها مجتمعة، إلى سدّة الحكم. إنهم أحرار فيما يعتقدون، بالطبع، حتى ولو كنت أرى اعتقادَهم خاطئاً، وضارّاً بمصلحتهم... ولكن؛ أنْ يأخذوا الانتخابات التركية مثالاً يؤيد تفكيرهم، فهنا يكمن الالتباس. في تركيا، أيها الأعزاء، تجري الانتخابات على أساس النظام العلماني الديمقراطي الذي بلغ عمره اليومَ 99 سنة، منذ إعلان الجمهورية. والأغلبية التي تربح سياسية وليست دينية، ولا قومية، بدليل أن حزبين إسلاميين أيدا كمال كلجدار أوغلو العلماني في الانتخابات أخيراً، بينما أيد حزبٌ علماني أردوغان. وكلجدار أوغلو، رئيس الحزب الجمهوري الأتاتوركي، أعلن للناخبين أنه علوي، لا لكي يكسب تأييد العلويين، بل لكي ينفي عن نفسه صفة الإلحاد أمام ناخبين متديّنين عموماً. وعلينا ألا ننسى أن الشعب التركي كان، قبل إعلان الجمهورية، مسلماً محافظاً، مثل مجتمعاتنا الحالية، والعلمانية فُرضت عليه فرضاً، من التيار الذي كان يتطلّع إلى الغرب بوصفه أنموذجاً يحقّق التطور، وقد رأوا أن العلمانية لا تُنازع الناس على معتقداتهم، فالمدن التركية كانت، ولا تزال، مزدحمة بالمساجد والمصلين، وهي التي لم تقف في وجه وصول حزبٍ إسلامي بقيادة نجم الدين أربكان إلى السلطة، ومن بعده "العدالة والتنمية". ويدرك الرئيس رجب طيب أردوغان (وحزبه) هذه المعادلة، فلم يحاول الاقتراب من الدستور العلماني، ولا من القوانين العلمانية، وإن كان يقوم بتصرفات تُعجب المتدينين، كقراءة القرآن، أو رفع الأذان، بصوته، وتحويل كنيسة إلى جامع، وسجوده شكراً لله بعد فوزِه، وكثير من التصرّفات التي تدلّ على التقى، فهذا لا يعني، بحال، أن الانتخابات على الطريقة التركية، وحدها، يمكن أن تحلّ معضلة التخلف في بلادنا.