السوري الذي "بيعرف كلّ شي"
تعرّفت، في إحدى المدن التركية الصغيرة، على مهندس أردني لديه حسّ فكاهة عال. سألني، بعد التعارف، إن كنت قد زرت الأردن، وما هو انطباعي عن شعبه؟ أجبته: نعم، زرتُ مدينة إربد في سنة 2006، وبقيت فيها أسبوعاً، وأرى أنّ شعب الأردن طيب، ومضياف، ومحترم... فأكد على كلامي، وأضاف: والإنسان الأردني عنده ميزة تانية؛ بيعرف كلّ شي... مستحيل تسمع من أردني جملة: ما بعرف.
قلت له إنّ هذه الصفة ليست خاصة بالأردنيين، فهي تنطبق على شريحة كبيرة من السوريين... وأنا أعرف رجلاً من بلدنا يمضي جلّ أوقاته في المنزل، ويتدخّل في المقادير التي تستعملها زوجته للطبيخ، ويعرف كلّ شيء عن صناعة المخلّلات، والحلويات. وإذا رأى ابنه متعثراً في حلّ مسألة الرياضيات يزجره، ويخبره بأنّه كان يحلّ أعقد مسألة رياضيات بدقيقة. وإذا وقعت عينه على ابنته تحاول ضم خيط في سمّ الإبرة، يقول لها "هاتي لهون" ويبدأ بمديح مهاراته المتعدّدة، وندب حظه الذي ابتلاه بأولادٍ لا يعرف واحدهم كيف يكون ضمّ الإبرة على أصوله. وعندما يحاول ضمّها، يخذله بصره الشحيح، ويرى أولاده يكتمون ابتساماتهم... ومما سمعته عن هذا الرجل أنّه يوبّخ زوجته، لأنّها لا تجيد انتقاء ملابسها الداخلية، ويذهب بنفسه إلى دكان "النوفوتيه النسوانية" ويُحضر مجموعة ألبسة من مختلف المقاسات والألوان، ويطلب منها أن تنتقي ما يلزم له، وعندما يقع اختيارها على قطع محدّدة يرفضها، لأنّها، برأيه، غير مناسبة، ويشتري لها ما يعجبه.
السوري لا يفهم في الرياضيات وضم الإبر والألبسة وحسب، بل في أمور كثيرة أيضاً، منها السياسة الدولية. وخلال سنوات الثورة صرنا نرى أناساً لم يعملوا في الشأن العام قط، ومع ذلك تراهم على الفضائيات وفي وسائل التواصل الاجتماعي يغرّدون بآرائهم كالبلابل... لكنّني أظن أنّ أكثر مجالٍ يبدع السوري ويتفوق فيه، هو الطبّ... حدّثني صديق من بلدياتي أنّه عاش فصولاً طريفة للغاية، بعدما تجاوزت والدته سن السبعين، وأصبحت تُصاب بأمراض الشيخوخة، فهناك جلسة نسائية كانت تعقد يومياً في دارها، تتدارس فيها النسوة أعراض الأمراض، وأفضل السبل لمعالجتها. وذات مرة، طلبتْ منه أن يأخذها إلى مختبر الأشعة، ليأخذ صورة شعاعية لظهرها، فاستغرب، وقال لها إنّ الإنسان الذي يعاني من آلام الظهر يراجع طبيباً مختصاً بأمراض العظام أولاً، وإذا طلب الطبيب صورةً يتجه إلى المختبر... فقالت إنّ جارتها أم أسعد ذهبت، بعدما وقعت عن السيبة، إلى طبيب العظام فطلب منها صورة... وصديقي هذا من النوع البارّ بوالدته، ينفذ طلباتها من دون مجادلة، فالمجادلة معها خاسرة حكماً، اصطحبها إلى طبيب العظام الذي سألها عما تعاني منه، فشرحت له أنّ ظهرها يطقطق، ويُصدر صوتاً شبيهاً بصوت كومة عظام وضعت في كيس، وداس عليها رجل سَمين بقدميه، وكان الطبيب يبتسم في أثناء المعاينة، وقد تبين له أنّ ظهرها سليم، وأوصى لها بعلبة حبوب "فيتامين دال" وعندما اشترى ابنُها علبة الدواء لم تنتهِ القصة، إذ نظرت إلى العلبة بازدراء، وقالت له: هادا الطبيب ما بيفهم، عيني لا تنظره، بنت عمك سهيلة راحت ع طبيب في حلب، وكتب لها كومة إبر وتحاميل وحبوب وسيروم... وفي اليوم التالي، أحضرت اسم الطبيب الحلبي وعنوانه، فسافر برفقتها إلى حلب. وبالفعل، تجاوب الطبيب الحلبي مع الحالة، وكتب لها خمسة أنواع من الأدوية... وكان صديقي يلبّي طلبات والدته، لأنّه يستطيع ذلك. أما المحنة الكبرى التي حصلت، فهي أنّ إحدى الجارات شاهدت بين أدوية الوالدة علبة حبّ زرقاء اللون، فقالت لها: هادا الدوا بيعمل رَجفة في القلب، وقفيه فوراً، وقولي لإبنك يروح عَ الصيدلية، ويجيب لك حبّ لون علبته صفرا، والحبة اللي جواته طويلة، ولونها أخضر وأحمر!