السيادة الليبية بين برنار ليفي وشوغالي
زار الكاتب الفرنسي، برنار هنري ليفي، ليبيا في بدايات ثورة فبراير (2011) فيها، واجتمع إلى زعماء قبائل ليبية، وخصوصا في المنطقة الشرقية، وكان لافتا للنظر أنه التقى مع معظم أعضاء المجلس الانتقالي الذي تكوّن في تلك الفترة، ومع رئيس المجلس المستشار مصطفى عبد الجليل. ولم يكن اهتمام وسائط الإعلام والفضائيات، الليبية خصوصا، بزيارات ليفي تلك، نابعا من معرفتها بهذا الشخص، أو إدراكها دورا يلعبه في عدة دول، سيما غير المستقرة، كما أنه لم يكن نتيجة لمعرفتها بتأثير ليفي على كثيرين من متّخذي القرار في أوروبا، خصوصا في فرنسا، من خلال صديقه الرئيس ساركوزي، بل كان ذلك الاهتمام ناتجا عن نشاطاته ولقاءاته، سواء مع الساسة الليبيين أو مع الشباب المسلحين في مختلف الجبهات، إذ إن حال معظم القائمين على تلك الإذاعات كان كحال ليبيين كثيرين لا يعرفون عن ليفي، عدا عن أنه أحد السياسيين الغربيين الذين زادت أعدادهم في تلك الفترة، وتوالت زياراتهم إلى ليبيا منذ الأيام الأولى للانتفاضة، وكان ينظر إليه على أنه دبلوماسي غربي يبدل جهودا مضنية في مساعدة الليبيين في التخلص من نظام القذافي وحمايتهم من بطش كتائبه.
ظهر ليفي في أكثر من مناسبة في محاور القتال التي كان يخوضها المسلحون، يعدهم بمزيد من الدعمين، المادي واللوجستي، مركّزا في زياراته على المناطق التي كانت تمثل المحاور الرئيسية والحيوية في هذه المواجهات، وتولى كثيرون من شباب الثورة مرافقته وحراسته في تلك الزيارات، واستغلّ، بمكر، جهل هؤلاء بشخصيته، وعدم معرفتهم بالدور المشبوه الذي يلعبه لصالح الصهيونية، معتمدا على توق هؤلاء المقاتلين إلى الحرية وتضحياتهم من أجل التخلص من الديكتاتورية والنظام الشمولي الذي استمر أكثر من أربعة عقود، إلا أن ذلك الغموض المحاط به ما لبث أن تبدّد، سيما بعد أن أعلن أنه نقل رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، عن أن المعارضة الليبية ستسعى إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل في حال وصولها إلى السلطة. تصريح جعل بعضهم يتنصّلون من معرفته، بعد أن اكتشفوا حقائق كانوا يجهلونها، وإدراكهم مواقفه المعادية للعرب والمسلمين، وتعصبه للصهيونية، ووجوده المشبوه في كل مناطق التوتر، متسلحا بكل ما يملك من إمكانات لزعزعة الاستقرار وإحياء النعرات القبلية بما يساهم في إضعاف الدول وتقسيمها إلى دويلات وأعراق وقبائل وأحياء ليسهل التحكّم بها.
على الرغم من انكشاف سوءات برنار ليفي، بقيت أوراقه المشبوهة لم تحترق
وعلى الرغم من انكشاف سوءات ليفي، بقيت أوراقه المشبوهة لم تحترق. وكما يقال، عادةً ما يعود المجرم إلى مسرح الجريمة، إما لشعوره بالذنب أو ليتأكّد من أنه لم يترك دليلا يقود إليه. أما ليفي فقد عاد إلى ليبيا في العام 2020، لأن جريمته يبدو أنها لم تكتمل بعد، خصوصا وهو يرى بعض جهود المصالحة بين الأطراف الليبية، والتي يخشى أن تهدم ما حاول زرعه من بذور خلاف، مستغلا الأقليات تارة، وحقوق المرأة والعرقيات في مرّات أخرى. وقد تنصّل فائز السراج، الذي كان يرأس حكومة الوفاق في تلك الفترة، من زيارة ليفي تلك، وقال إن حكومته تحقق فيها، وإنه سيّتخذ "إجراءاتٍ رادعةً بحقّ كل من يُدان"، في موقفٍ جاء متناغما مع موقف المجلس الأعلى للدولة الذي صرّح رئيسه خالد المشري قائلاً: "نستغرب السماح بدخول المدعو برنار هنري ليفي ليبيا، ونطالب الجهات المعنية بالتحقيق في سبب الزيارة والجهة الداعية له". وكان ذلك استنكارا من حكومةٍ يُفترض أنها تكون على علم، بل وأول من يعلم، بكل ما يحدث في بلد تدّعي أنها تحكمه، خصوصا أن ليفي لم يدخل البلاد متسللا عبر حدودها، بل وصل على متن طائرة خاصة إلى مطار مصراتة، التي لا تبعد عن مقر حكومة السراج سوى مائتي كيلومتر، وهناك برنامج متكامل لزيارته تضمّن لقاءات مع مسؤولين ونواب محليين عديدين وسط حراسة مشدّدة، وملثمة، لا يعلم أحدٌ تبعيتها. وفي الأحوال كافة، إذا كانت حكومة السرّاج على علم بالزيارة، فهو أمر يدعو إلى الاستغراب والاستهجان، خصوصا بعد أن انكشفت هوية الشخص ونياته، ولم يعد يحتاج للتقيّة ليخفيها. أما إذا كانت الحكومة لم تسمح ولم تعلم بمثل هذه الزيارات لمثل هذه الشخصيات المثيرة للجدل، فتلك كارثة أكبر، الأمر الذي يعني أن البلد مستباح ولا حاجة لإذن حكومي للتنقل واللقاء والالتقاء بمختلف الفعاليات (وهو الاحتمال الأقرب).
شكّل السراج لجنة لتقصي حقائق تلك الزيارة، وهي حقائق لا تحتاج من يتقصّاها أو يبحث عنها. ورغم مرور سنوات على تشكيل هذه اللجنة، فانها لا تزال تبحث عن حقائق يعرفها الجميع!. غادر السراج الحكومة وغادر ليفي ليبيا، غير أن السراج لا يستطيع أن يعود إلى كرسي الرئاسة، أما ليفي فيستطيع العودة متى شاء ليزور من يشاء ويفعل ما يشاء وبحراسة مشدّدة واهتمام إعلامي كبير.
لم يمر وقت طويل على ما فعله ليفي، حتى ظهرت شخصية أخرى مثيرة للجدل، استطاعت دخول الأراضي الليبية، وبالطريقة الغامضة نفسها. واذا كان الأول، كما يعرّف نفسه، مفكّرا ومثقفا فرنسيا، فإن مكسيم شوغالي لم يبتعد كثيرا، فدخل بمهنة الباحث الاجتماعي. ويحتمل أن القاسم المشترك بينهما مساعدة الليبيين في تخطّي أزماتهم والخروج من النفق المظلم والظروف الصعبة التي لا يزال كثيرون يعيشونها، ظروف حرّكت فيهما المشاعر الإنسانية الفيّاضة التي اشتهرا بها في أكثر من بلد! الأمر الذي جعلهما يخاطران بالدخول إلى بلدٍ من دون علم حكوماته ومليشياته، على كثرتهم، لمعرفتهم وتأكّدهم من أن سيادة البلد ليست على سلم أولوياتهم. وبغض النظر عن وظيفة مكسيم في أوراقه الرسمية، فإنه من الشخصيات الغامضة والمثيرة للجدل، وكل ما يعرف عنه قربه من بريغوجين، الحليف القوي للرئيس الروسي بوتين، وهو الذي سبق للولايات المتحدة أن اتهمته بالتدخل في انتخاباتها الرئاسية التي جرت في العام 2016.
بين زيارتي ليفي وشوغالي إلى ليبيا سنوات شهدت، ولا تزال، على بلد استباحته مخابرات العالم
اعتقل في طرابلس في نهاية العام 2019، بعد أن تتبعته المخابرات الأميركية (وليست الليبية) في طرابلس (وليس في واشنطن)، لتقبض عليه قوات الردع بتهمة ارتكابه أفعالا مضرّة بأمن الدولة، وتجنيد ليبيين لجمع معلومات وتدريبهم للعمل في التأثير على الانتخابات الليبية، على عكس الأسباب التي ذكرها لدى حصوله على التأشيرة الليبية. وقد صرح المركز الإعلامي لعملية بركان الغضب، والتابع لحكومة الوفاق في حينها، إن مكسيم شوغالي أرسل تقارير يومية ركّزت على الأوضاع العسكرية والاقتصادية في ليبيا، والتقى سيف الإسلام القذافي، المرشّح الذي تدعمه روسيا وتحاول تسويقه في الداخل والخارج. وقد قضى شوغالي، مع مترجمه سامر سوقبان، أكثر من سنة ونصف في سجن معيتيقة، قبل الإفراج عنهما في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
الخلاصة أن ما بين زيارتي ليفي وشوغالي سنوات شهدت، ولا تزال، على بلد استبيح من مخابرات العالم وأصبحت أراضيه ومياهه مركزا تمارس فيه تصفية الحسابات بين الدول الكبرى، والصغرى أيضا، والتي وجدت المناخ المناسب لتحقيق أهدافها أو أهداف من تنوب عنهم. ولم يقتصر الأمر على نشاط هذه المخابرات داخل الأراضي الليبية، ولكنه وصل إلى استباحة مجموعات من شمال الساحل والصحراء مناطق الجنوب، في عمليةٍ قادت إلى تغييرات ديمغرافية لم تعد تحتاج دليلا، خصوصا في مناطق مرزق والكفرة والقطرون وغيرها، والتي نزح أهاليها إلى الشمال، بعد أن استحال بقاؤهم فيها. أما الحكومات ومجلسا الدولة والنواب فلا تزال تتنازع الحكم في العاصمة وبنغازي، وتنشغل بالتعديل الدستوري وباختيار المناصب السيادية في دولة لا تزال أبعد ما تكون عن السيادة.