السيسي في الدوحة
دلّت زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الدوحة أخيرا، على مدى التقدّم المطّرد الذي تمضي فيه العلاقات المصرية القَطرية، على المستويين الاقتصادي والسياسي، بعد طوْرٍ من التأزّم الشديد، والتوتر الإعلامي، ثم القطيعة إياها، قبل أن تتمكّن القاهرة والدوحة من تجاوز هذا كله نحو فتح منافذ اللقاء والتلاقي، وإزاحة أي تبايناتٍ بشأن بعض القضايا، الحقيقية أو المتوهمّة أو التي عمِل الإعلام على تضخيمها. ومن حزمة دروسٍ ثمينةٍ، يلتقطها المواطن العربي من هذه السيرورة الطيّبة في التحسّن المتسارع في العلاقات بين البلدين، أن في وسع القيادات والحكومات العربية، في أي ظرفٍ، أن تجد مساحات التوافق والتفاهم والتعاون بينها، وفي صيغ عديدة، إذا اشتدّت الخلافات واتّسعت، في حال وجود الرغبة السياسية العليا في هذا الاتجاه. وأن حالا محمودا كهذا لا يلغي بالضرورة وجود تباعدٍ في بعض خياراتٍ سياسية، على ألا يسلك الطرفان لغة الاتهام والارتياب، وأن يُبقيا قنوات الحوار والتداول في أي شأنٍ مفتوحةً دائما. وأن المواطن العربي إذ تسرّه كل علاقةٍ متطوّرةٍ بين الحكومات العربية، على أرضيات التعاون الاقتصادي والنأي عن التوتر السياسي، فإنه يرى، في الوقت نفسه، أن من حقه أن تكون له آراؤه في أداءٍ أو آخر يتّخذه هذا النظام العربي أو ذاك في هذا الشأن أو تلك المسألة. والناظر في مشهد العلاقات المصرية القَطرية، بعد قمّة العلا في يناير/ كانون الثاني 2021، والتوقيع على بيانٍ أنهى الحصار الرباعي المعلوم على دولة قطر (لم يُنشر نصّه)، يلقى أن الأمور الثلاثة هذه (وأخرى غيرها ربما) حاضرةٌ في مسار التحسّن الكبير في هذه العلاقات، والذي كانت من محطّاته المركزية، قبل مبيت السيسي الثلاثاء الماضي في الدوحة، زيارة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، القاهرة في يونيو/ حزيران الماضي.
يقول الرئيس المصري لوكالة الأنباء القطرية، بمناسبة زيارته، إن "من الضروري تجاوز الخلافات العربية البيْنية، مع أهمية تركيز الجهود العربية في الوقت الراهن على التنسيق والشراكة، من أجل التكامل السياسي والاقتصادي، ودعم الأمن والمصالح العربية المشتركة". وهذا من بديهياتٍ يأمل كل مواطنٍ عربيٍّ أن يراها ماثلةً أمام ناظريْه، فلا تكون كلاما مرسلا، بعد أن لم يعُد لهذا المواطن ذلك الطموح إلى وحدة الموقف العربي (والمصير المشترك؟)، وإلى التكامل العربي أو إلى تكتلاتٍ اقتصاديةٍ ووحداتٍ سياسيةٍ عربية. سيما وأن اتحاد المغرب العربي على بؤسِه الذي نعرف (لا يزال قائما، ولديه أمانة عامة لها مكتبها في الرباط!)، وأن مجلس التعاون الخليجي العربي في حالٍ غير مرضٍ لمواطني دول الخليج الستّ، ولا داعي لتذكّر دفن مجلس التعاون العربي (العراق واليمن ومصر والأردن) صيف العام 1990 بعد أقلّ من عامين على إطلاقه.
لا بأس من الإقرار الصريح بأن الضرورات الاقتصادية، لنقُل المنفعية القُطرية المحضة، يلزم أن تكون دافع كل حكومةٍ عربيةٍ إلى إبعاد أي خلافات سياسية مع أي حكومة أخرى عن المصالح الاقتصادية ذات الأثر الحسن على مواطني بلديهما. وهذا مما يشتهيه واحدُنا بشأن المغرب والجزائر مثلا. والبادي أن المشتركات في مساحات التلاقي القطري المصري، في شؤون إقليمية وعربية، سيما في الشهور الأخيرة، أوسع مما توحي به اجتهادات المحللين. والملحوظ أن القاهرة والدوحة ماضيتان في تثمير هذه المشتركات، في غير ملفٍّ وشأن (ليبيا مثلا)، ما سيكون له مردودٌ معاينٌ له جدواه. ولا يحتاج أيٌّ منا إلى استرسالٍ في القول إن من المنتظر، دائما وأبدا، أن يكون لمصر دور بنّاء ومتقدّم، بل وقيادي، في راهن الأمة ومستقبلها، والمأمولُ أن نرى هذا رأي العين، لا في إنشائيات افتتاحيات الصحف ورطانات التلفزات إياها وثرثرات مسلسلات الدراما.
مؤكّدٌ أن توقيع مذكرة التفاهم بين صندوق مصر السيادي للاستثمارات والتنمية وجهاز قطر للاستثمار، في أثناء زيارة السيسي الدوحة (ومذكّرتي تفاهم أخرييْن)، نقلةٌ متقدّمةٌ في توسيع الاستثمارات القطرية في مصر في غير مجال، سيما وأن الخبراء المتابعين يتحدّثون عن تطلّع مشترك إلى أن ترتفع هذه الاستثمارات من واقعها 4,3 مليارات دولار، في قطاعات مختلفة (الصناعة والاتصالات والزراعة والسياحة والتطوير العقاري .. إلخ) إلى أضعاف هذا الحال. ومؤكّد أن أمرا كهذا، وما تنتهي إليه اجتماعاتٌ متواترةٌ للجان ثنائية مشتركة من اتفاقيات، يُشعراننا جميعا بالغبطة، ولكن من دون أن يعنيا أن نتواطأ، نحن المواطنون العرب، مع أوجه عطبٍ وخللٍ وسوءٍ لا تُرضينا، وما أكثرها.