الشعارات والواقع المعاكس
لم يكن أحدٌ في بداية تفجر الثورات العربية يفكّر في مآلات الشعارات التي ترفع من حرية وعدالة وتداول سلمي للسلطة وغيرها، باعتبار أن النتيجة لا يختلف فيها ولا يختلف عليها، ولكن بعد مرور هذا الوقت من عمرها، ظهر على السطح أن للشعارات، أيضا، كما للأفعال أن تُوهم ويغير من مقصدها والمراد منها، حتى أصبحت تُباع وتشترى بالمال السياسي، ويتغير حالها ويتجدّد مآلها تبعا لقائِلها ومتبنّي نهجها الذي صنعها لها، وليس أَصلُها وحقيقتُها، وكأنها بضاعة تباع وتشترى، فالتداول السلمي للسلطة قد ينطق به العسكري، ويقصد به وصوله هو إلى السلطة والاستيلاء عليها، وقد يدندن حوله أعضاء من برلمانٍ فقدوا الشرعية منذ سنوات؛ بل وقد لا تكون لهم شرعية أصلاً، حتى أصبحت مثل هذه الشعارات كالبضائع التي تُروّج في مواسم محدّدة عند اشتداد الخلاف، وما إن يهدأ المجتمع بفعل القوة أو المسكّنات، حتى تختفي وتلقى في سلة المهملات، إلى أن تأتي الحاجة إليها مرة أخرى تزييفاً للوعي، وقفزا على الحقوق والواقع.
في ليبيا مثلا، لا تتعجب عندما تسمع من يدندن عن التداول السلمي للسلطة، وهو يدور في فلكها وفيها منذ عشر سنوات، ولا تغترّ كذلك، بل ولا تنتظر من أجسام سياسية منتهية الصلاحية، وفاقدة للشرعية، لا تنتظر منها أن تتفق على شيء من الدستور لإجراء الانتخابات، وفق قاعدة دستورية أو ما شابه، لأنه من الغرابة أن تُوقّع على إقصاء نفسها من المشهد!
هكذا المشهد في جلّ البلدان العربية، بحيث لا يمكن أن يتصوّر أن تكون فيها الشعارات السياسية والواقع سيّان، بل الاختلاف والضد هو الذي يجمعهما، في ثنائية انفصالية تامة بين الواقع والشعار السياسي الذي يقال أو يدندن حوله، وإن كان يمس صميم الدولة وبنيانها.
الانفصال عن الواقع بشعارات رنانة لا بد أن يأتي يوم لتكون فيه من الماضي، خصوصا في البلدان التي سارت في نهج الثورات العربية
وفي المقابل، الذين يختارون ويقتنصون الشعارات السياسة في كل مأزق سياسي في البلاد، ليس ذلك من العبث، أو تغييرا للواقع بها، بل للإيهام والاستمرار في الوضع الحالي، أو تغييره إلى حالة أخرى، يرتضونها وتسير تبعا لما تقتضيه مصلحتهم، وليس تصحيحا للمشهد السياسي الذي تكون فيه البلاد.
الانفصال عن الواقع بشعارات رنانة لا بد أن يأتي يوم لتكون فيه من الماضي، خصوصا في البلدان التي سارت في نهج الثورات العربية، ثم أُوكل عليها سياسيون لا يجيدون إلا الفشل، ورفع الشعارات التي تطيل من أعمار وجودهم في المشهد السياسي لهذه البلاد أو تلك. وبالتالي يستمرّون في تزييف الواقع والانفصال عنه بحجج واهية، قد تجعل غشاوة على القاعدة الشعبية في فترة ما، ولكنها سرعان ما تُزال، ويبقى الواقع بكل أبعاده واضحا للعيان.
كما أن المشكلة من منظورها العام لا تكون في رفع الشعارات بحد ذاتها فقط، بل في المحاولات المتكرّرة بالأسلوب نفسه والصورة نفسها، لتمريرها على الشعوب، لتكون بالجملة ما هي إلا أهداف غير معلنة لمشروعٍ يُراد له أن يكون، بصورة أو أخرى، تحت غطاء هذه الشعارات.
وختاما: أما آن الأوان لبلدان فعلت فيها الشعارات الواهمة ما فعلت، وجعلت للسياسة الرعناء موطئ قدمٍ فيها، حتى أصبحت السياسة فيها تكرّر بكل مشاهدها في العام الواحد مرّات عديدة، أما آن الأوان لتبنّي رؤية واقعية شاملة، يكون الواقع فيها هو لبّ الشعارات لا العكس، رؤية شاملة تأخذ في أبعادها العوامل الداخلية للنهضة الشعبوية من الداخل، وتحصين المجتمع من الانسياق وراء شعاراتٍ تسلب إرادته وحقوقه، وكذلك تراعي العوامل الخارجية، الإقليمية منها والدولية، في إنشاء سياسة تتعامل بعقلانية في نهضة بلدانها، والمحافظة عليها وفق أطر مصلحية تراعي الحقوق الداخلية ولا تهمل الخارجية، تراعي التداول السلمي للسلطة حقيقة وواقعا، وتحترم التشريعات، والعدالة الاجتماعية، في تحقيق العدالة السياسية الحقيقية، فقط حينئذ لن يكون هناك احتكار للسلطة، ولن يكون هناك برلمان عمره عشر سنوات، كما هو الحال في ليبيا!