الشمول المالي كما تفهمه الحكومة المصرية

27 فبراير 2022

البنك المركزي المصري في القاهرة (12/3/2020/Getty)

+ الخط -

تتغنّى الحكومة المصرية، منذ سنوات، بالشمول المالي والتحول الرقمي وما تقدمه البنوك من تسهيلات، وتصفها بأنها قفزات نوعية وإنجازات غير مسبوقة محلياً، وربما عالمياً، فهذا عام الشمول المالي، وذاك اجتماع الشمول المالي العربي أو الدولي الذي بفضل القيادات السياسية والبنكية الحكيمة تم بحمد الله في القاهرة، لكنّ الواقع لا يزال بعيداً عن هذا بعقود.

في مصر فقط لا يزال عملاء البنوك يدفعون رسوماً عن الحساب تحت مسمّيات عدة، مثل مصروفات الحساب الشهرية، وعن كلّ حساب فرعي يدفع العميل القيمة نفسها عن الحساب الرئيسي، وكأنّ البنك يبيعك رقم الحساب ويؤجره لك، أو أنّ هذا الحساب يأكل ويشرب شهريا بهذه القيمة. وهناك رسوم أخرى لا تعلم عنها شيئاً عندما تنظر إلى كشف حسابك، ولا أحد حتى من العاملين في البنوك يستطيع إعطاءك إجابات شافية عن هذه المصروفات ومسمّياتها التي يتعمّد موظفو بعض البنوك كتابتها بالإنكليزية، وكأنّها بذلك أصبحت منطقية ومستحقّة، لأنّنا جميعاً لا نعلم ماهيتها.

في مصر فقط أيضاً لا تستطيع المرأة فتح حساب بنكي ما لم يكن لها دخل ثابت من عمل في شركة، ومؤمن عليها، ومثبتة في التأمينات الاجتماعية وفي البطاقة الشخصية، وإلّا فإنّها بحاجة لمفردات مرتب زوجها، وربما حضوره شخصياً معها لفتح حساب لها، لتفاجأ لاحقاً أنّها إذا تقدّمت هي وزوجها، عبر أحد البنوك للحصول على خدمة الإسكان الاجتماعي، ثم سحبا مقدّم الحجز فليس بإمكانها أن تحصل على شهادة تفيد ذلك السحب للتقدّم إلى الجهة نفسها، وليس في هذه الجهة وسيلة أخرى لإخبار نفسها أو جهة شريكة لها أنّ العميل قد سحب هذا المبلغ، رغم أنه مسجّل على النظام الخاص بالبنك، ورغم أن زوجته وشريكته في ملفات التقديم سبق واطلعت عليه، وكأنّ البنك يريد من المواطن أن يثبت له أنّه قد قام بالسحب، في وقائع غريبة وعجيبة ولا منطقية.

في مصر فقط لا يزال عملاء البنوك يدفعون رسوماً عن الحساب تحت مسمّيات عدة

وإذا لم تكن مواطناً صالحاً تعمل في شركة رسمية لديها بطاقة ضريبية وسجل تجاري، وتقوم بالتأمين عليك، وتغير لك المهنة في البطاقة، فلن تستطيع إثبات أنّك تعمل، وأنك جدير بالولوج لهذا النظام المصرفي في بلد أكثر من نصف العاملين فيه يعملون في قطاع غير رسمي، وهم بالضرورة غير مؤمن عليهم، أو ليسوا مثبتين عاملين في أيّ سجلات رسمية، ثم يحدّثونك عن الشمول المالي.

في مصر فقط يكون هناك عشرة شبابيك للموظفين المختصين بالتعامل مع المواطنين في السحب والإيداع في فروع البنوك الأكثر ازدحاماً، العامة والخاصة، ثم لا تجد أكثر من موظف أو اثنين مساكين يتعاملون مع مئات الأشخاص المتردّدين على الفرع يوميا، ليتحوّل المواطنون والموظفون إلى كائنات مشوّهة أشبه بالزومبي، وتتحول حياة المتردّدين على البنوك إلى جحيم يحاولون تجنبه قدر الإمكان، ثم نشكو من الاقتصاد غير الرسمي.

في مصر فقط، إذا أردت إجراء تحويلات إلى الخارج، حتى لو إلى حساب شخصي لك، أو حساب شركتك في بلد آخر، فإنّك سوف تضطر لتقديم كومة من المستندات، فقط لإثبات أنّ هناك سببا ما لهذا التحويل، وربما يُرفض طلبك، أو يحوّل إلى الجهات الأمنية، إذ كيف تقترف خطيئة التحويل إلى الخارج أو الاستقبال منه بسهولة، ونحن نعيش في ظل شمول مال؟

يستبعد الشمول المالي بالصيغة التي تريدها الحكومة المصرية أكبر قدر ممكن من المواطنين المصريين من النظام البنكي والمالي

في مصر فقط يضطر مئات آلاف من العاملين في المهن الحرّة الجديدة عبر الإنترنت، أو من يطلق عليهم "الفريلانسرز"، للتذلل للشركات والبنوك ورجال الأمن والسلطة، لإثبات أنهم يعملون وأصحاب دخول، وجديرون بامتلاك حساب بنكي والسفر والإنفاق من أموالهم التي اكتسبوها بفقدان أجزاء من نظرهم كل يوم، بالبقاء أمام الشاشات عشرات الساعات شهريا، وأنهم مواطنون صالحون يُدخلون إلى البلد مئات ملايين الدولارات، ويستحقون هذا الشمول المالي. عندما قال صديق لي لضباط أنه يعمل "فريلانسر"، صدمه هذا مباشرة، بالقول "يعني أنت بالنسبة لي عواطلي". بينما يتعدّى راتبه راتب هذا الضابط.

في مصر فقط أيضا، قد تُحوّل إلى تحقيق مطول ممزوج بالتشكيك في وطنيتك وولائك لبلدك من مدير بنك خاص، فقط لأنك تلقيت، لا سمح الله، 50 دولاراً عبر "ويسترن يونيون" من الخارج، فهذه الدولارات الخمسون بالنسبة له، ولجينات الوطنية التي تتهيج لديه، قد تخرّب البلاد وتدمر العباد، وهي بالضرورة تمويل للإرهاب من مجلس إدارة الكوكب، بينما يعمل مئات من موظفي الحكومة ومنتسبيها في الوظائف السيادية لدى جهات أجنبية، ويتلقون أموالا بسهولة ويسر عبر طرقهم الملتوية.

في مصرنا العزيزة، لا يزال ليس في وسعك التحويل عبر التطبيق الإلكتروني إلى البنك من حسابك إلى حساب شخص آخر، أو إلى حسابك في بنك آخر، إلّا بالمرور عبر موظف البنك وفي الصف والدور والشباك، على الرغم من محاولات التطوير، عبر محاولات تطوير التطبيقات أو عبر جهاز قد أعطوه للعملاء منذ سنوات، ولا يعرف أحدٌ فائدته، طالما أن علينا التنفيذ من خلال الفرع. بل يقتضي مفهوم الرقمنة في الجامعات والمؤسسات الحكومية المصرية أن تدفع رسوم الخدمات العامة عبر وسيط آخر، مثل شركة "فوري" أو "فيزا" أو "ماستر كارد" وغيرها، ثم تحصل على إيصال بذلك، لتذهب لتقف مجدّدا في طابور الخزينة لتثبت للموظف أنك دفعت. ولم يخطر ببال هؤلاء أنه إذا كان الغرض تقليل الدفع كاش فقط فيمكن تزويد الموظف المختص بماكينة "فوري" أو غيرها، والسحب عن طريقها أو الدفع إلكترونيا عبر موقع المؤسّسة مقدمة الخدمة. والأغرب في معظم هذه الخدمات أنك سوف تفاجأ برسم إضافي مبالغ فيه، تحت مسمّى رسوم دفع إلكتروني، وكأنّه يبيع لك هذه الميزة الإضافية في واقعة غير موجودة في معظم البلدان التي تبنّت الشمول المالي الحقيقي.

قد تُحوَّل إلى تحقيق ممزوج بالتشكيك في وطنيتك من مدير بنك خاص، لأنّك تلقيت 50 دولاراً عبر "ويسترن يونيون"

لا يعدو الشمول المالي بتلك الصيغة كونه شعارا انفصاميا عن واقع مرير لكل المتعاملين مع البنوك المصرية، شعار يعطيك أملا أن الحياة ستصبح سهلة، بينما عندما تذوب في تفاصيلها وتفقد وقتك وأعصابك، تتمنّى أنّك لم تولد هنا ولم تعش ليصبح معك مال لتضعه في مثل هذه البنوك.

كما يستبعد الشمول المالي بهذه الصيغة أكبر قدر ممكن من المواطنين المصريين من النظام البنكي والمالي، فالعاملون في مهن حرّة غير المقيدين في نقابات ليس لهم الحق في الانضمام لمثل هذا النظام البنكي، وكذلك كلّ العاملين الزراعيين والباعة في الأسواق والعاملين في الورش الخاصة بالصناعات الصغيرة والمتوسطة غير المسجلة شركات، والتي تستوعب أغلب القوى العاملة. كلّ هؤلاء خارجون من رحمة الشمول المالي ومستبعدون منه، بينما المصطلح، في جوهره، يقتضي فتح حساب لكل من يريد فتح حساب، طالما أنّه يمتلك بطاقة هوية وطنية وفي السن القانونية، وأن يكتب ما يشاء في ما يتعلق بدخله وعمله، بل إنّه في الحالة المصرية يقتضى أن تجري البنوك خلف العملاء الجدد، لفتح حساباتٍ لهم، وتطاردهم بالتسهيلات في الشوارع والجامعات والأسواق والورش، وعبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل، إن أرادت شمولاً مالياً حقيقياً، ونظاماً بنكياً أقوى، واقتصاداً بنظام تمويلي ومصرفي يستوعب الجميع.

عمر سمير
عمر سمير
عمر سمير
كاتب وباحث مصري
عمر سمير