الشيخ إبراهيم عيسى .. والمجاهد علاء مبارك
لم تمرّ ساعات على زوبعة المذيع إبراهيم عيسى، حتى رفع الستار عن مشروع قانون جديد في مصر، يضاف إلى قائمةٍ طويلةٍ من تشريعات تكميم الأفواه، إذ يقول الخبر إن لجنة برلمانية نظرت في تشريع جديد مقدّم من 60 عضوًا تحت عنوان "منع غير المتخصّصين من الحديث في أمور بغير ترخيص من السلطات".
هذه الصياغة تعني أنه ممنوع الكلام في مسائل الدين والعقيدة، إلا لمن ترخّص لهم الحكومة بذلك، فيما لم يُخف أصحاب مشروع القانون الجديد أنه مقدّم خصيصًا على ضوء الأزمة التي فجّرها حديث إبراهيم عيسى التلفزيوني، وتناوله موضوع الإسراء والمعراج.
هل كان إبراهيم عيسى بحديثه الأخرق، الأرعن، المنطلق من جهل وادّعاء وخيلاء كذَّابة، وتطاول على ما تواضع علماءٌ ثقاتٌ على أنه معلوم من الدين بالضرورة، والادّعاء الجهول بأنه أعلم من العلماء والمشايخ التقليديين بجوهر الدين، هل كان يؤدّي دورًا مرسومًا مسبقًا للوصول إلى هذه النتيجة؟
السرعة الغريبة في التقدّم بمشروع القانون، وأيضًا، ردود الأفعال الواسعة، التي صدرت بتناغم وترتيب محكم، نيابيًا وإعلاميًا وسياسيًا، تشي بأن المسألة كلها كانت حرثًا للتربة من أجل زراعة تشريع جديد، ظاهرُه حماية الدين من عبث العابثين، وباطنُه مصادرة منع الاجتهاد ومصادرة الحق في الكلام والخطابة، وقصرها على مشايخ السلطان، ممن يرضى عنهم النظام ويرخّص لهم بالحديث والفهم والتفسير ومخاطبة الناس، الأمر الذي يحوّل الدين، في نهاية المطاف، إلى أداة في يد السلطة، تستعمله في قمع الذين لا يصفّقون لها، ويلوون عنق النصوص لخدمة استبدادها وتوحشها على البشر.
الشاهد أن هناك من العقول المصرية التي لا تنتمي إلى المؤسسة الدينية الرسمية، من هم هم أكثر فهمًا وقدرة على إدراك الجوهر الصحيح للدين، وتبسيط علومه، من خرّيجي مؤسسات التعليم الديني .. ناهيك عن أن بعض من يمسكون بالسلطة الدينية الآن، المفتي ووزير الأوقاف على سبيل المثال، يشعرونك بالأسى على مستوى العلماء والمشايخ كلما قرأوا نصًا دينيًا أو أصدروا رأيًا في مسألة فقهية تخصّ الجمهور، فضلًا عن أنهم وكثيرين غيرهم، برّروا، باسم الدين، قتل الناس وحرقهم أحياء ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم وتغييبهم وتعذيبهم في السجون.
يحدث ذلك في الوقت الذي يطارَد فيه العلماء الحقيقيون ويتعرّضون لحملات من البذاءة وقلة الأدب، ويصنفون إرهابيين وأعداءً للوطن، لمجرّد أنهم لا يسوّغون للسلطة إجرامها وبطشها وإهدارها كل قيمة محترمة، بل أن فريقًا من علماء الأزهر، على رأسهم الإمام الأكبر، يتعرّضون لحملات استهداف وصفاقة إعلامية وسياسية، تحت زعم تجديد الخطاب الديني وتطويره .. وفي مقابل ذلك، تتولى السلطة ذاتها بالرعاية نوعيةً من فقهاء الاستبداد والقمع، تراهم صالحين للاستخدام في مرحلةٍ قلت عنها مبكرًا: مرحلة تحوّل فيها رجل الدين من "شيخ" إلى "شيف" يصنع الفتوى وكأنه يصنع الحلوى، ويقدّم الرأي كما يؤدّي الرقص، في بلاط الحاكم بالنكهة التي يفضلها.
المنطق السائد، أو الآلية المتبعة لأي سلطة استبدادية، تقوم على: إذا أردت تقليص مساحات حرية التعبير ما عليك سوى أن تفتح الباب واسعًا أمام خطابٍ تعبيريٍّ متجاوز وسفيه وأهوج يؤذي قطاعًا واسعًا من الجمهور في معتقداته وتقاليده وأعرافه الاجتماعية، فيغضب الناس وينتفضون ضد هذه الإساءة. وفي هذه اللحظة، تطل السلطة بوجهها وتوقف المسيء عن إساءته، وبالمرّة تصادر مساحة من حرية التعبير ذاتها.
يحدُث ذلك في الفن وفي السياسة وفي الأمور الدينية أيضًا، لتظهر السلطة في هيئة حامي حمى دين المجتمع وأخلاقه وعاداته وقيمه وتقاليده، فيصفّق لها الناس على هذا المعروف، على الرغم من أن هذه السلطة هي ذاتها التي تنغّص عليهم حياتهم بسياساتٍ اقتصاديةٍ مجحفة، وفساد واحتكار لثروات البلاد، وإجراءات أمنية عنيفة، تجعلهم سجناء الخوف من الكلام والاحتجاج، وعدالة غائبة تحبس المظلوم، وإعلام شرير يطعن الناس في انتمائهم ويجرّدهم من المواطنة ويتهمهم بخيانة الوطن.
الأمر لا يقتصر على السلطة فقط، بل أن هذه المواقف المثيرة، التي توفرها السفاهات الرائجة على لسان إبراهيم عيسى وكتائب النظام الإعلامية والبرلمانية والثقافية والفنية، تمنح أماكن للتخفّي من فضائح تسريبات مالية وسياسية، يلتحق أصحابها بالصفوف الأولى للمجاهدين دفاعًا عن الدين والمقدّسات، ولا تعدم، في ذروة وطيس المعركة المقدّسة، أن يتساءل أحدهم عن هذا الوغد (العلماني) الذي استغل انخراط المجاهد علاء مبارك في معركة الإسراء والمعراج، لكي يدسّ له 200 مليون دولار في حسابه بالبنك السويسري، وبتواريخ قديمة؟