الصخب عن طالبان في فوضى الأفكار
تقفز اليوم أسئلة رصد مهمة في حركة الجدل الإسلامي الجديد، جدلٌ من الجدال المَرضي الصراعي، لا الجدل الفكري الإيجابي، وتعود اليوم استقطابات الجماعات التراثية ومدارسها، في ظل صعود تيارات الإلحاد والعلمانية المتعدّدة، وكل يخوضُ لجج بحره في عبثيةٍ صفرية، ولسنا نقول إن الحفريات الفكرية وحراك الحوار الإسلامي الأخلاقي والتشريعي غائبة عن المشهد، ولكنها توضَع تحت ضغطٍ يقطع الطريق دورياً، على العودة القوية لمسار النهضة الذي يبحث عنه الشرق منذ مائتي عام وأكثر. بل من الطرائف المحزنة أن هناك عودة إلى هدم المفكرين الكبار لدعوات التجديد، مع خلط جاهل في فهم طباعهم الشخصية، وما صاحبته من حدّة مواقف، وبين ما واجهوه من عواصف صعبة وتحدّيات، بين المستبد في حاضر العالم الإسلامي، وقوة المؤسسة الغربية الأمنية التي كانت تترصد لهم، على الرغم من تواصلها معهم، هذه الموجة اليوم باتت تتعقب حياة جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي، بدلاً من أن تعود إلى أفكارهم وظروف حياتهم الصعبة، فضلا عن تضحياتهم، لفرز قواعد الفكر الرشيد.
وقد سبق أن عرض الكاتب، في مقالة سابقة في "العربي الجديد"، قصة الاغتيال الفكري لجمال الدين الأفغاني، والتهم التي تُحاك ويُعاد تدويرها منذ الزمن القديم عن مفكري الإحياء الإسلامي، لسبب سياسي منذ ذلك الزمن، استخدم تكيّة بعض علماء التراث لشيطنتهم، واتهامهم بالعمالة للغرب. وكان غرضه منع رؤاهم السياسية الإصلاحية والحكم الفيدرالي للشعوب، من التمكّن من الوصول إلى منبر التوجيه العام للحركات الوطنية والجمهور، علماً أن كفاح تلك القيادات الفكرية الروحية مزدوج ضد الاستبداد الغربي والمستبد في حاضر الإسلامي.
ما أفضَت له تجربة الزمان الأخير حاجة الجميع للخروج من الخندق الصراعي إلى الاستيعاب الواعي لدوائر الخلاف، وتحديد أين هو هذا الاختلاف
أما حالة العودة إلى تيارات التراث والمذاهب فلا إشكال فيها، فطبيعة الناس، في تخلقهم في بيئاتهم، أن ينضووا تحت مدرسة أو مسار فكري ديني، لهم فيه خصوصية المدرسة، ولهم شراكتهم في الجُهد الأخلاقي في المجتمع، أو المساهمة الثقافية، سواء كانوا مدرسة فقه أو حديث أو سلوك "التصوّف"، لكن ما أفضَت له تجربة الزمان الأخير هو حاجة الجميع للخروج من الخندق الصراعي إلى الاستيعاب الواعي لدوائر الخلاف، وتحديد أين هو هذا الاختلاف وإدارة الصراع معه أخلاقيا. وما يُرصد اليوم هو العكس حتى في فكرة الخلاف بين المدارس السلفية، وبين المدارس الخَلَفية، في التراث (الشرعي) الذي اختطّه ذلك المذهب أو هذا التيار الديني، ويحتشد التأزم بعد انكشاف حجم التوظيف السياسي بعض هذه الشخصيات أو التيارات في لعبة الاستبداد العربي، وكيف انقلبت تلك النماذج المُحاطة بالهيبة، إلى ذواتٍ صغيرةٍ تحشد كل تأويل لسلامتها، وتتبرّأ للنظام من أي علاقة برفيق إسلامي خارج التيار أضحى في أقبية السجون وحُفر القبور.
وظاهرة أخرى، وهي عودة التكفير العام للصوفية، التي كان تكفيرها نتاج توظيف سياسي بعض أطر الصحوة الخليجية، فاستُخدمت لتنحية نفوذ مقابل نفوذ الدعوة الوهابية المسيّسة. وتعميم التكفير ليس حالة سلفية عامة، ولكنها تخص تلك المستويات من المتشددين أو النماذج الجاهلة من محدودي العلم، مشهوري الصخب الخطابي. ومع ذلك يسري صراخهم في الملأ، ويُضلّل حشداً من الناس تحت موجات التصفيق الذي تحرّكه غرائز الكراهية والانتقام بين التيارات، لا التعبّد النقي والتفهم الإيماني الرشيد، ولا النقد المنصف للصوفية، وهم حالاتٌ متعدّدة، بل ومتباينة.
وحتى حملة ردود بعض التيارات التراثية على الحالة السلفية، صوفيةً كانت أم عقائدية، فهي كذلك تنزع إلى روح مقاربة لهذه الثأرية، واقع يكشف مرارة الواقع الحالي، وأزمة العقل المسلم المعاصر، وإن كانت حشود الصراع لا تُعبّر بالضرورة عن غياب الفكر الوسطي، وسطية حقيقية تبحث عن الرأي وعن تنظيم الخلاف، لتعبر، بوعي الفرد أولاً ثم بدفع المجتمع، إلى ما هو من صحيح الدين، لا أباطيل التراث، ولا التأويل التعسفي، فتصل إلى نهضة أوطانها الممزّقة بالحروب.
الأصل أن تُشجّع "طالبان" على تقديم نموذج عدالة اجتماعية وسياسية يحتوي الجميع، لا أن تُحاربهم أو تفرض عليهم طاعة ولي الأمر العمياء
وفي غمرة انتصار "طالبان" وهزيمة الأميركيين التاريخية، قفز الحماس لتجاوز شروط الدولة في الحقوق، ورفض أُطرها المدنية التي هي في الأصل وسائط تُكرّس حقوق الشعب، ومساحته في تقييم مسيرة الحكم، وفي الحفاظ على علاقات المجتمع المسلم ذاته، المتعدّدة آراؤه وأفكاره وقومياته، هذا في سُنّة أفغانستان فقط، فضلا عن الأقليات الدينية والمذهبية الأخرى. مع أن "طالبان" تتجاوب بسرعة مع متطلبات المشهد الدولي للاعتراف بها، وببطء مع حقوق الطيف الأفغاني وثقافته، لضمان استقرارٍ سياسي في الحكم، وهو سيظلّ اختبارها الكبير، لتحقيق الانتصار السياسي بسلامة الدولة ووحدتها الوطنية، والذي ستحتاج "طالبان" فيه للفكر الإسلامي المختلف معها أكثر من المتفق، لكن هذا التغير في المواقف السياسية لـ"طالبان" نحو سياسة الدولة، لا سياسة الحركة، لا يُنظر إليه بأعين واعية، وإنما بصخب احتفاء، سواء انعطف يميناً أو يساراً، مع الترحيب الهستيري بصراع "طالبان" العسكري مع بقية الطيف الأفغاني، هذا النوع من صخب الاحتفال حالة مَرضية لا انتصار فكري سياسي، ولا توجد اليوم ضمانة، وهذا ما نخشى منه، لعدم عودة كرة الحرب المدمّرة إلى أفغانستان، حتى مع بسط الحركة قوتها الأمنية.
والأصل أن تُشجّع "طالبان" على تقديم نموذج عدالة اجتماعية وسياسية يحتوي الجميع، لا أن تُحاربهم أو تفرض عليهم طاعة ولي الأمر العمياء، وهو مصطلحٌ نُزع من مقصده القرآني، ولا يزال يُسخّر لسحق حقوق الناس واضطهادهم. وفي معادلة المعرفة الإسلامية، هناك أسس تصحيح في محاضن الفكر الجديد، لكنها معادلة تُخنق، أو أنها لا تكاد تؤتي ثمرتها في قواعد تأسيسية، حتى تجتاحها مواسم الأحداث، وتبدأ حفلة صخب جديدة تدعو إلى هدم رؤى التجديد التي تعتمد المسار الأخلاقي والمعرفي، المتفق مع النص الصحيح، فتعود الثقافة اليوم إلى دعوات الجاهلية الأولى، جاهلية لأنها، في الحقيقة، تعتمد على تحزبات أو مذهبيات صراعية ضد الإنسان، تخالف صريح القرآن.