الصهيونية حلّ غربي لمشكلة غربية
فتحت عملية طوفان الأقصى الباب على مصراعيه أمام شعوبنا العربية وكل الشعوب الحرّة في العالم للتعرف إلى جذور القضية الفلسطينية وأبعادها المختلفة، بعد أن ظهر جلياً حجم الانحياز التام لكثير من الدوائر الرسمية والإعلامية والبحثية في الغرب لدعم الكيان الإسرائيلي المحتل. تقدّم تعرية الأسس التي قام عليها هذا الكيان لنا جزءاً مهماً من تفسير هذا الانحياز، لأنه يكشف عما أنتجته آلة الدعاية الصهيونية، ثم الإسرائيلية، من زيف عبر ما يزيد عن قرن. تقف هذه المقالة عند بعض ملامح الأيديولوجية التي على أساسها قام ذلك الكيان، أي الصهيونية السياسية، من ناحية نشأتها الأوروبية وارتباطها بحركة الاستعمار الغربي.
تقوم الفكرة الأساسية للصهيونية السياسية على أكذوبتين، أو أسطورتين، أساسيتين صيغتا بعناية فائقة من صحافي نمساوي يهودي هو ثيودور هرتزل (1860 - 1904) في القرن التاسع عشر: الأولى أن هناك "مشكلة يهودية" هي "تشتت اليهود وتعرّضهم للمطاردة والاضطهاد أينما وجدوا برغم أنهم يشكلون أمة واحدة وشعباً واحداً"، والثانية أن الحل الوحيد لهذه المشكلة "عودة" هذا "الشعب" إلى "أرضه المقدّسة، أرض الميعاد" بغية إقامة دولة خاصة به. ظهرت هذه الصهيونية كبرنامج عمل سياسي بأهداف ووسائل سياسية.
من السهولة كشف زيف الأسطورتين، ففكرة "العودة إلى فلسطين" ليست جديدة، فقد آمن بها يهود كُثر على مر العصور، ولكن بهدف ديني هو "إعادة بناء هيكل سليمان" وإقامة "مملكة إسرائيل" وعن طريق وسيلةٍ دينيةٍ قدوم المسيح، لأنّ اليهود لا يعترفون بأنه بُعِث. الجديد في الصهيونية السياسية هو أنها تختلف عن الدعوات السابقة الدينية بهدفها السياسي (إقامة "دولة يهودية" في فلسطين)، وبوسائلها السياسية (الاعتماد على العمل اليهودي الذاتي ودعم القوى الكبرى وليس انتظار المسيح). كما أنها ادعت أن "العداء لليهود" له أبعاد ثلاثة، تاريخي (العداء وُجد منذ وُجد "اليهود" وحتى اليوم)، وجغرافي (العداء يشمل "اليهود" في كل أنحاء العالم)، وكيفي (أن ما وقع على "اليهود" لا يعادله أي اضطهاد وقع على سواهم في أي زمان ومكان).
أدّى تسلط الجماعات اليهودية في عالم الاقتصاد مع ظهور النظم الرأسمالية إلى تفاقم كراهية "اليهود" في المجتمعات الأوروبية
أما بخصوص عبارتي "المسألة اليهودية" و"الشعب اليهودي"، فيمكن القول إنه لم تكن هناك مسألة يهودية واحدة في الواقع، لأن ما كان قائماً هو المشكلات التي واجهتها الجماعات اليهودية المختلفة في المجتمعات الأوروبية المسيحية في العصر الوسيط تحديداً، وكانت أيضاً تختلف من بلد أوروبي إلى آخر. هذا إلى جانب أن هناك جماعات يهودية لم تعانِ من الاضطهاد كالتي كانت في الأندلس تحت الحكم الإسلامي وفي دول المشرق (إيران ومصر والعراق والشام والمغرب وغيرها). أي أن الاضطهاد لم يكن مشكلة عامة لكل اليهود أينما وُجدوا كما ادّعت الصهيونية. كما أنه لا يوجد شعب واحد اسمه "الشعب اليهودي"، فالحقيقة أن اليهودية دين، وأن أتباع هذا الدين يختلفون في العرق والتاريخ، وحتى في اللغة والمذهب الديني وغير ذلك. ومن ثم، من العبث على سبيل المثال تصديق أن اليهودي اليمني واليهودي الأوروبي ينتميان إلى العرق نفسه.
لكن، ما الذي مهّد الطريق لظهور الصهيونية السياسية بهذا المعنى بعد قرونٍ من الدعوات الدينية؟ الحقيقة أن هناك عوامل مترابطة ومتداخلة تفسّر هذا لا دخل لنا نحن العرب بها. يعود بعضها إلى المجتمعات الأوروبية في القرن التاسع عشر، ويرتبط بعضها الآخر بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والفكرية للجماعات اليهودية في تلك المجتمعات تحديداً. وباختصار شديد، ظلت الجماعات اليهودية تعيش كأقليات في المجتمعات الإقطاعية المسيحية قروناً، وقام أفرادها بوظائف التجارة الوسيطة والإقراض بالربا وفتح الحانات وفي الحياكة والصباغة، وعرفوا بالانعزالية والتقوقع وتجنّب الاختلاط بباقي الشعوب، وخضعوا لكراهية المسيحيين بسبب عقيدتهم الدينية. ولما شهدت أوروبا عصر النهضة والتنوير وانهيار النظم الإقطاعية، استفادت الجماعات اليهودية من هذا الجو واندمجت في المجتمعات الأوروبية بعد أن عاشت قروناً على هامشها. وكانت أولى حركات تحرير الجماعات اليهودية في النمسا، ولم تتحرّر الجماعات اليهودية الأخرى على نطاق واسع، إلا بعد الثورة الفرنسية. وفي سنة 1870 لم يتبق في أوروبا يهودي واحد غير محرّر. ولاحقاً، أدّى تسلط هذه الجماعات في عالم الاقتصاد مع ظهور النظم الرأسمالية إلى تفاقم كراهية "اليهود" في المجتمعات الأوروبية.
وضعت عملية تحرير الجماعات اليهودية تساؤلاتٍ عديدة أمام اليهود، فكيف يكون المرء يهودياً يدين بالتوراة والتلمود في حياته وفكره، وألمانياً أو فرنسياً يدين بالولاء لوطن وحكومة، ويعيش ثقافة وحضارة مغايرة لما جاء في كتبه المقدّسة، وكيف يوفّق اليهودي بين العلمانية التي فصلت الدين عن الدولة، وأدّت إلى جعل اليهود مواطنين في المجتمعات الأوروبية، والدين اليهودي القائم على تميز وتمايز اليهود عن غيرهم من الشعوب؟ وهكذا، فعلى الرغم من أن حركات تحرير اليهود جلبت منافع عديدة لهم؛ حيث مكّنتهم من الاندماج في الحياة الأوروبية، بل والسيطرة تدريجياً على عديد من قطاعاتها الحيوية، فإنها قد ألحقت باليهود، كجماعة دينية أو كأمة متميزة (كما يرون)، أضراراً عديدة. وإزاء هذه المشكلة، انقسم مفكّرو اليهود وعامتهم بين اتجاهاتٍ عديدة، فظهر اتجاه إصلاحي، وآخر محافظ، وثالث تجديدي، هذا فضلاً عن "اليهودية التلمودية" التي سُميت اليهودية الأرثوذكسية. وأخيراً ظهرت الحركة الصهيونية لتشكل تياراً جديداً.
لا يمكن فهم الصهيونية خارج إطار الحضارة الغربية، وهذا يفسّر جزءاً كبيراً من احتضان الدول الغربية الكبرى لهذا الكيان
وقد نشأت الحركة الصهيونية أولاً في أوروبا، ثم راحت تُجنّد أنصاراً ومؤيدين لها في أوساط الجماعات اليهودية هناك، ولتشرع بعد ذلك، وبدعم من بريطانيا في الأساس، في تهجيرهم إلى فلسطين، وتشكيل عصاباتٍ مسلحة منهم لإرهاب أصحاب البلاد الشرعيين وطردهم، بل وقتلهم وإبادتهم. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن أهداف الحركة الصهيونية في إقامة دولة لليهود في فلسطين قد التقت مع أهداف القوى الاستعمارية الغربية ومطامعهم في إقامة حاجز بشري غريب بين مشرق العالم العربي ومغربه، يحول دون قيام خلافة إسلامية عربية تحلّ محلّ الخلافة الإسلامية العثمانية. والتقت أيضاً بما سُمّيت الحركة الصهيونية غير اليهودية (الصهيونية المسيحية)، التي كانت من نتاج حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا، والتي آمن أتباعها بحرفية الكتاب المقدّس ووعود الرب لإبراهيم ويعقوب، وبأن عودة اليهود إلى فلسطين هي المقدّمة لعودة المسيح المنتظر وقرب بداية العصر الألفي السعيد. وقد انتقلت أفكار هذه الحركة مع المهاجرين الأوروبيين البروتستانت إلى أميركا حيث ظهرت منظمّات الحركة المسيحية الأصولية التي تؤمن إيماناً دينياً عميقاً بمساعدة "إسرائيل" وشعبها.
الحركة الصهيونية، إذن، استعمارية نشأت في أوروبا حلاً استعمارياً للمشكلة التي سمتها الحركة ذاتها "المسألة اليهودية" التي تخلّصت من يهود أوروبا عبر تصديرهم إلى العالم العربي، وكذراع للاستعمار الغربي للإبقاء على المنطقة العربية مقسمة وتابعة. لا يمكن فهم الصهيونية خارج إطار الحضارة الغربية، وهذا يفسّر جزءاً كبيراً من احتضان الدول الغربية الكبرى لهذا الكيان. وهناك أبعاد أخرى ذات أهمية، وظفتها الحركة الصهيونية وهي في طريقها لبناء كيانها الاستعماري، كاستخدامها عدّة أساطير تاريخية ودينية، والاستفادة من تطوّرات سياسية أوروبية عديدة.