الضفة الغربية... ترقُّب قلِق
لا فصل، في الحقيقة، بين قطاع غزّة والضفّة الغربية، فهما عقبتان أمام أهداف الاحتلال، واليمين المُتطرّف منه، وإنْ كانت غزّة تعيش، الآن، حرباً وجودية، والضفّة الغربية تضمر ما هو أدعى إلى تلك الحرب، باحتوائها القدس والمسجد الأقصى، بؤرة الصراع الأخطر، لجهة فتحه على مصراعيه، وكذلك، بوصف الضفّة الغربية الَمحلَّ الأهم للمشروع الاستيطاني التهويدي.
ولذلك كان اقتحام وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير (أكثر من يهِّدد أمن دولته القومي، ويتلاعب به)، باحات المسجد الأقصى، ردّاً سريعاً، على اعترافات دول أوروبية بالدولة الفلسطينية، وردّاً على طلب المُدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، إصدار مذكّرة اعتقال بحقّ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانية.
كان اقتحام بن غفير، وهو الأول منذ بدأت حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزّة، صريحاً في التقدُّم خطوةً نحو هذا الصراع المفتوح، حين تبجّح بسيادة إسرائيل الكاملة على المسجد الذي ينطوي على أبعاد اعتقادية دينية، إسلامية، كما ينطوي على دلالات سياسية، ووطنية، سيادية. بالتوازي، تسارعت تصريحات رديف بن غفير، بتسلئيل سموترتيتش، وزير المالية، عن ضرورة أن يكون الردُّ على تلك التهديدات، من اعتراف بالدولة الفلسطينية، وملاحقات قضائية لقادة الاحتلال، بتكثيف الاستيطان، على نحو مبالغ فيه، ولا معقول، إذ طالب سموتريتش "بردّ صهيوني" على اعتراف كلّ من النرويج وإسبانيا وأيرلندا بدولة فلسطين، داعياً إلى بناء مستوطنة جديدة مقابل كلّ دولة تعترف بها.
يزداد ميلُ الاحتلال إلى العسكرة في الضفّة الغربية، كما تؤكّده الممارساتُ الاحتلالية العدوانية الباطشة، في مُخيّمات طولكرم، وجنين، وغيرها
لم تكن مواقف سموترتيتش، هذه، طبعاً، شيكاً بلا رصيد، فهي توازت مع الخطوة الخطيرة بالعودة عن فكّ الارتباط مع شمال الضفّة الغربية. وفي هذا تأكيد على الربط بين قطاع غزّة والضفّة الغربية، في المخطَّطات والرؤية الاحتلالية، وكما بدأ يتضح ما يطمح إليه نتنياهو في القطاع؛ من إدارة مدنية تحكمه، مع بقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية، وفق ما كشف مصدرٌ فلسطيني مسؤول، في حديث لـ "العربي الجديد"، عن طرح إسرائيلي "يتحدَّث عن خطّة يتطلَّب تطبيقها من ثلاث إلى خمس سنوات، في حدّ أقصى، تقضي خلالها إسرائيل على حركة حماس، على حدّ زعمها، وتسمح بتموضع قوات عربية في قطاع غزّة يكون من مهامها الأمن والإعمار، ولاحقاً تُسلّم هذه القوات العربية مهمّة الأمن إلى حكومة تكنوقراط فلسطينية، توافق عليها إسرائيل، وتسمّيها "الإدارة المدنية المحلية". وهذا عكْسٌ لخطّة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرئيل شارون، بالانسحاب الأُحادي من القطاع، مع الانسحاب من أربع مستوطنات قرب جنين، شمالي الضفة الغربية، وهي؛ غنيم، كديم، حومش، وسانور، وبموجب قانون إلغاء "فكّ الارتباط"، صار بإمكان المستوطنين العودة إلى المستوطنات التي فُكّكت شمال الضفّة الغربية في عام 2005. وكذا، جاء إلغاء فكّ الارتباط تنفيذاً للشقّ المتعلّق بالضفّة الغربية.
وكما يطمح نتنياهو إلى إنهاء الوجود السياسي الفلسطيني في غزّة، لمصلحة إدارة تابعة للاحتلال، وتحت إشرافه، كذلك، لا يوجد ما ينفي، بل ثمّة ما يؤكّد، توجُّهات قادة الحكومة الحالية نحو إضعاف السلطة الفلسطينية، إلى درجة إعادة صياغة تصل إلى إدارة ذاتية، تحت حكم الاحتلال وإشرافه، لا أمل لها بأيِّ تطور سياسي أو صيرورة دولية. هذا، في وقت يزداد ميلُ الاحتلال إلى العسكرة في الضفّة الغربية، كما تؤكّده الممارساتُ الاحتلالية العدوانية الباطشة، في مُخيّمات طولكرم، وجنين، وغيرها، وإعادة حصار مدن الضفّة الكبرى، وتعجيز الفلسطينيين أثناء تنقُّلاتهم الضرورية بين مدن الضفّة على طرقات، أصبح السفر عليها أشبه بالجحيم؛ ما ينذر بمحاولات عزلها بعضها عن بعض. وكلُّ هذا يندرج تحت رغبة احتلالية أعلنها نتنياهو، بالانتقام من فلسطينيي الضفّة الغربية، وقد أغاظه، كما قال، ارتفاعُ نسبة المُؤيّدين منهم لعملية طوفان الأقصى، إذ وصلت إلى 80%. فيما نتنياهو وأضرابُه، من قادة اليمين المُتطرّف، ليسوا بحاجة إلى مثل تلك المبرّرات لتضييق الخناق على الضفّة الغربية، وصولاً إلى ضمّها، وإخضاعها إلى السيادة الاحتلالية الكاملة، وفق ما سُمّي بصفقة القرن الجارية جرياً حثيثاً على أرض الضفّة الغربية.
كما يطمح نتنياهو إلى إنهاء الوجود السياسي الفلسطيني في غزّة، ثمّة ما يؤكّد توجُّهات الحكومة الحالية نحو إضعاف السلطة الفلسطينية
وكانت الورقة المالية الاقتصادية سيفاً ماضياً، سُلّط على حياة فلسطينيي الضفّة الغربية، بحجْب أموال المقاصّة، وهي ملك للسلطة الفلسطينية، كما أكَّدت الولايات المتّحدة، أخيراً، وفي مناسبات كثيرة سابقة، وكما كان الحصار المالي على البنوك الفلسطينية، أيضاً، وهو الأمر الذي حذَّرت منه، ومن تداعياته كذلك، واشنطن. والهدف المُعلَن، من هذه الحرب الاقتصادية، على لسان سموتريتش، على الأقلّ، هو انهيار السلطة الفلسطينية. وهذا، يذكِّر بأنّ ما تريده إسرائيل، وتطمح إليه في الضفّة الغربية والقدس، ليس مضموناً، فهو يواجَه بقيودٍ أميركية، كما يواجَه، من قبل، بالإرادة الفلسطينية، الشعبية، بصمودها وبنضالها. كما أنّه، وهذا مُهمّ، مرهون بتطوُّرات الحرب في غزّة، وقدرة جيش الاحتلال، على فرض سيطرته هناك؛ تمهيداً لنوع من التفرُّغ، للضفّة الغربية، في حال تصاعدت فيها حدَّة الصراع.
إلا أنّ دولة الاحتلال، إزاء القيود الأميركية، تملك الأوراق على الأرض، وأنْ تفرض وقائع، تستبق الرؤية الأميركية، وهو ما دأبت عليه حكوماتُ الاحتلال المتعاقبة، إذ ظلّت لا تلتزم بوقف الاستيطان، أو تجميده؛ ما جعل الوجود الاستيطاني في الضفّة الغربية، وحول القدس، يتفاقم، والطرق الالتفافية تبتلع المزيد من المِساحات وتعزل التجمُّعات الفلسطينية، كما تسعى إلى عزل القدس عن سائر مناطق الضفّة الغربية، بالإضافة إلى المصادرات المتكرّرة لأراضٍ شاسعة في منطقة الأغوار. وعليه، تظهر خطورة المرحلة الراهنة، لجهة محاولات دولة الاحتلال إجهاض أيّ تطلعات استقلالية فلسطينية، لا بنجاحات تحقِّقها إسرائيل، دوليّاً، ولكن بالغطاء الأميركي الفعلي، الذي لا يزال يحميها، ولو بمعارضات قوية، لكي تستمرّ في احتواء الضفّة الغربية، وإعادة صياغة الكيانية الفلسطينية، ليس استهدافاً، لقادة مخصوصين مقصودين على رأس السلطة، ولكن، لحرمان هذا الكيان السياسي من أيِّ آفاق دولية، تخرجه عمَّا تريد له إسرائيل، من حكم ذاتي تحت السيادة الاحتلالية، حتّى وصل الإصرار الإسرائيلي الحالي على تكريس هذا التوجُّه إلى رفْض مُجرَّد الإيهام بقبوله مساراً يُؤدّي إلى دولة فلسطينية، ولو كان الثمن تطبيعاً كاملاً مع دولة عربية مُهمّة، ومُؤثّرة، هي السعودية.