العرب من "الوحدة" إلى "التضامن" إلى "لمّ الشمل"
لم تعد مفردة "الوحدة" تجد مكانا لها في الخطاب السياسي العربي، بعدما وئد المشروع القومي على أيدي دُعاته. أكثر من ذلك، أصبح ذكر تلك المفردة يقابَل بالاستخفاف والسخرية، خصوصا وقد طفت على السطح في السنوات الأخيرة خلافاتٌ واختلافاتٌ وصل بعضها إلى حد الاشتباك والتصادم بين البلدان العربية ساهمت في نمو النزعة القُطرية، وحدوث قطيعة بين بلد عربي وآخر، ولأن الناس على دين ملوكهم، لم يعد المواطن العادي في وارد الاهتمام بما يجري في بلد غير بلده.
يحدُث هذا اليوم بعكس ما كان يجري قبل عقود مديدة، عندما لم تكن معظم البلدان العربية قد حصلت على حقها في الاستقلال والسيادة. في حينه، كانت الدعوة إلى "الوحدة العربية" قد أخذت موقعا متقدّما، ليس في ثنايا الخطاب السياسي فحسب، إنما كانت لها أحزابها وحركاتها. ولم يكن الرأي العام آنذاك أقلّ اهتماما بها من تلك الأحزاب والحركات، وحتى الحكام كانوا، بدرجة أو أخرى، يحرصون على إيلاء المسألة المذكورة اهتماما ملحوظا، وظهر في تلك الفترة مفكّرون وكتّاب ينظرون إلى المشروع القومي، ويدعون إلى الدولة العربية الواحدة.
وربما غابت عن أذهان كثيرين واقعة انعقاد أول مؤتمر عربي رسمي يدعو إلى الوحدة العربية انعقد في بداية أربعينيات القرن الراحل في الإسكندرية حضرته وفود سبع دول (مصر والسعودية والعراق ولبنان وسورية والأردن واليمن). وكان مثيرا أن ينعقد ذلك المؤتمر تحت لافتة "مشاورات الوحدة العربية"، بما تحمله هذه اللافتة من معنى ودلالة، وتواصلت تلك المشاورات سنوات ثلاثا على نحو أو آخر، حتى توصلت إلى إنضاج خطّة تأسيس جامعة الدول العربية، لتكون أول منظمة عربية جماعية في العصر الحديث، وإنْ عدّت تلك الخطوة، في نظر كثيرين، تراجعا عمّا كان يمكن أن يتم باتجاه تحقيق هدف "الدولة الواحدة"، بينما رأى آخرون أن المعطيات المتوفرة آنذاك لم تكن تسمح بالتقدّم أكثر. وعلى أية حال، ظل الأمل معقودا في أن تسنح ظروفٌ لاحقة لتطوير هذه المؤسسة، لتلعب دورا أكبر في العمل العربي، وفي إعداد خطط ومشاريع قابلة للتنفيذ ضمن هذا التوجّه.
على الرغم من مرور 80 عاما بعد قيام الجامعة، وانعقاد أكثر من 30 مؤتمر قمة للزعماء العرب، لم تستطع الجامعة نفسها أن تتقدّم على طريق تحقيق أهدافها
لكن على الرغم من مرور 80 عاما بعد قيام الجامعة، وانعقاد أكثر من 30 مؤتمر قمة للزعماء العرب، لم تستطع الجامعة نفسها أن تتقدّم على طريق تحقيق أهدافها، بل ظلت تتقاذفها أهواء دولة أو دول بعينها، كما تعرّضت لضغوط قوى دولية سعت إلى احتوائها والتأثير عليها لتبنّي مواقف وسياسات معينة تخدم مصالح تلك القوى في المنطقة، حتى تحوّلت في العقود الأخيرة إلى ما يشبه دائرة ملحقة بوزارة خارجية مصر (دولة المقرّ)، وانطبق عليها وصف ألسياسي الفلسطيني الراحل، أحمد الشقيري، إنها "لا جامعة ولا عربية". وهذا كله عرّضها للفشل في تنفيذ المهام القومية المنتظرة منها. وعزا بعضهم فشلها الذي لازمها إلى ما سمّاه "لعنة إيدن"، نسبة إلى وزير الخارجية البريطانية إبان الحرب العالمية الثانية، انتوني إيدن، الذي يقال إن له يدا في تأسيسها، وقد يكون الإنكليز قد دعموا الفكرة استباقا لما يمكن أن يعمل عليه الزعماء العرب في إطار وحدة بلدانهم.
وتبعا لكل هذه التداعيات، ظل الخطاب السياسي لجامعة الدول العربية يلهث وراء مفردات "العمل العربي المشترك" و"التضامن العربي"، وصولا إلى مفردة "لمّ الشمل" التي اختيرت شعارا لمؤتمر القمّة الذي انعقد أخير في الجزائر، ومعتى الشعار إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يتبدّد ما كان جمعا يوما ما. وفي المؤتمر ظهرت جامعة الدول العربية أمام أنظار المراقبين وكأنها قادمة من عصرٍ ماض، وهي تحاول أن تداري الهموم العربية الحاضرة فيما يدرك القائمون عليها صعوبة التوافق على حلولٍ واقعيةٍ للمشكلات التي يعاني منها الجسد العربي، وكان لابد من اللجوء إلى اللغة القديمة، واستخدام المفردات التي حملتها بيانات مؤتمرات القمم السابقة. وفي مفارقةٍ لافتة، أكّد الزعماء الحاضرون على "مركزية القضية الفلسطينية" وعلى "مبادرة السلام العربية بكافة عناصرها وأولوياتها"، وكذلك على "حماية الأمن القومي العربي" و"رفض التدخلات الخارجية" إلخ.. وهم يعلمون قبل غيرهم أن مياها جديدة جرت في غير ما اتجاه، وإن مواقف استجدّت لدى دول عربية لم ترد إشارة إليها في البيان تتعارض مع هذه المبادئ.
وفي مفارقة أخرى، سعى الزعماء إلى إشاعة الأمل لدى مواطنيهم بالحديث عن "عصرنة العمل العربي المشترك"، والانتقال إلى "نهج جديد يؤازر الأطر التقليدية ليضع في صلب أولوياته هموم وانشغالات المواطن العربي"، من دون أن يفسّروا لنا أحجية "النهج الجديد" التي ظلّت غامضة.
تذكّرنا هاتان المفارقتان بما قاله السياسي الروسي الراحل، يفغيني بريماكوف، عنا، نحن العرب، إننا نعاني من العجز عن رؤية ما يحيط بنا، ونخلط بين الواقع والوهم، ونتصوّر الأماني التي تدور في روؤسنا حقائق قاطعة.