"العفو الدولية" وعزمي بشارة
لا تحتمل المؤسّسة الحاكمة في إسرائيل، أيا كانت تلويناتها الحزبية، نعتَ ممارساتها وسياساتها تجاه الشعب الفلسطيني بالتمييز العنصري. ولعلّ قلقها الشديد من هذا الأمر كان دافع جهدها من أجل إلغاء القرار الذي تبنّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1975، ويعدّ الصهيونية "من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، وقد نجحت في هذا في 1991. ويمكن حسبان قلقها (أو توتّرها) ذاك نفسه هو ما جعلها تجهد من أجل عدم اعتماد الأمم المتحدة تقرير لجنتها الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، المعلن في 2017، وأكّد اضطهاد نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) الإسرائيلي الفلسطينيين. ونجحت دولة الاحتلال، فمنع الأمين العام للأمم المتحدة (السابق)، بان كي مون، نشر التقرير في موقع اللجنة. ولكن إسرائيل، مهما بلغ غضبها، لا تستطيع أن تصنع شيئا فيما يتعلق بما صارت تُصدره منظماتٌ حقوقية عالمية (ومحلية إسرائيلية، "بتسليم" مثلا) وازنة، ويقول، بتشريحٍ عميق، بمقاربة الأبارتهايد ممارسةً منهجيةً تسلكها الدولة العبرية تجاه الفلسطينيين، كما جهرت بذلك "هيومان رايتس ووتش" في تقريرها في 2020، واستعرض، بالحقائق والوثائق، "منظومة أبارتهايد" إسرائيلية. وأخيرا، أشهرت منظمة العفو الدولية (عشرة ملايين عضو، وجائزة نوبل للسلام)، تقريرا في 210 صفحات، بعنوان "نظام الفصل العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين .. نظام قاس يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الإنسانية". لم يكتف بتفاصيل عن إقامة إسرائيل نظام فصل عنصري في الأراضي الفلسطينية (تشمل مناطق 1948)، وإنما أيضا طالب المحكمة الجنائية الدولية النظر في "جريمة الفصل العنصري"، وحثّ على فرض عقوباتٍ على المسؤولين الإسرائيليين "الأكثر تورّطا في هذه الجريمة".
لهذا المعطى، المستجدّ في السنوات الأخيرة، من هذه المنظمات النشطة، ومن تجمّعات مدنية وثقافية وحقوقية، في الغرب، أهميته الجوهرية، في الصراع مع إسرائيل، على صعيد معركة انتزاع حقوق الشعب الفلسطيني، فالوعي العام في العالم لا يطيق قبول ممارساتٍ عنصريةٍ من أي قوةٍ تجاه أي فردٍ أو جمعٍ أو مجتمعٍ أو شعب. وإذا أجرى واحدُنا بحثا يتقصّى انتباه المثقفين (والسياسيين) الفلسطينيين إلى هذا الأمر، لا يقع على إدراكٍ واسعٍ لدى كثيرين منهم، سيما في مراحل سابقة، لأهمية هذا الخطاب. ومن بين أبرز المثقفين الفلسطينيين، الفاعلين، الذين انشغلوا مبكرا، وما زالوا، في تعميق هذا الوعي، عزمي بشارة. لا يكتفي بالتأشير إلى صفة إسرائيل دولة أبارتهايد، وإنما أيضا يضع هذا الأمر في معادلة الفاعلية الفلسطينية الملحّة في سياق الصراع مع الاحتلال، ومن أجل تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية، على ما أوضح هذا في كتابه "صفقة ترامب – نتنياهو .. " (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2020). إذ يطرح أن قضية فلسطين هي قضية تحرّر من واقع الاحتلال والشتات والتمييز العنصري في آن. ويكتب أن "الاستراتيجية الجديدة أن ينخرط الفلسطينيون في أماكن وجودهم كافة في المعركة ضد الأبارتهايد العنصري، وهذا يحتاج إلى درجة عالية من التنظيم والتنسيق، من دون التنازل عن خصوصية كل تجمّع فلسطيني وطبيعة جبهة المواجهة التي يخوضها". وفي مرافعته من أجل وجود سلطة فلسطينية ذات مهماتٍ داخليةٍ مصيرية، يأتي عزمي بشارة على "إنشاء مؤسساتٍ سياسيةٍ بأفق جديد وبرامج جديدة تتعامل مع الواقع المفروض على الأرض بوصفه واقع فصل عنصري". وفي الكتاب ما يصعب إيجازه هنا، عما يمكن اعتبارها "مأسسةً" مطلوبةً في النضال الفلسطيني ضد الأبارتهايد الإسرائيلي.
ولافتٌ أن مدير "العفو الدولية" في القدس ورام الله، صالح حجازي، قال في مقابلة مع "بودكاست عرب 48"، إن من عكفوا في "المنظمة" على إعداد تقريرها عثروا على تسجيل لعزمي بشارة يقول فيه أمام مؤتمر للحزب الوطني الأفريقي (في جنوب أفريقيا)، في التسعينيات، إن إسرائيل دولة أبارتهايد منذ تأسيسها. وتلك "ويكيبيديا"، في تعريفها ببشارة، تورد إنه يدعو إلى مقاربة سياسة إسرائيل باعتبارها دولة أبارتهايد كولونيالي. ويحسُن التأشير هنا إلى مقابلة المجلة الأميركية الفصلية المحكّمة في العلوم الاجتماعية "Race and Class"، مع عزمي بشارة نشرتها في عددها الـ 37 في العام 1995، واستخدم فيها وصف واقع الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة "أبارتهايد". ومع شيوع هذا الفهم بين النخبة الفلسطينية، أخيرا، ومع نشاطٍ طيبٍ يبادر إليه فاعلون مرموقون (مصطفى البرغوثي مثلا)، في الوسع أن يُقال هنا إن ما بسطه عزمي بشارة، من آليات عملٍ وفعلٍ وتفكير بخصوص الصراع مع إسرائيل بوصفها دولة أبارتهايد يصلح أرضيةً يُؤخذ بها، أو أقله النقاش معها والتداول فيها والإفادة منها، وهذا تقرير "العفو الدولية" يتيح مناسبةً لأمر كهذا.