فخري قعوار أو المقالة الغائبة
عندما ترشّح القاص الأردني، فخري قعوار، للمنافسة على المقعد المسيحي في إحدى مناطق عمّان، في انتخابات مجلس النواب في 1989، رأى كثيرون أن حضورَه الثقافي، أديباً مُجدّاً، وكاتباً للأطفال وللمسرح وللإذاعة والتلفزيون، لا يكفيه في مباطحة أسماء أوزَن منه سياسيّاً وأكثر حضوراً منه في المجال العام، فكان التوقّع الأوسع أن يُخفِق في نيْل المقعد في المجلس الذي ما زال يعدّ الأقوى بين البرلمانات التي تلته في الأردن، غير أن قعوار ظفر بالنيابة، ويُشار إلى اسمِه واحداً من نجوم ذلك المجلس، ومن أكثر الأعضاء فيه شجاعة، ورقيّاً في الأداءين، التشريعي والرقابي. ما غاب عن أفهام الذين استبعدوا نجاح الصديق، الراحل قبل أيام، في تلك الانتخابات، أنه كان كاتب مقالةٍ صحافيةٍ يوميةٍ واسعة المقروئية في "الرأي"، أكبر صحيفة في البلاد. ولا يعني هذا أن في وُسع أي كاتب مقالاتٍ في أي صحيفةٍ أن يُحرز مقعداً في البرلمان، وإنما أن مقالة فخري قعوار توفّرت على أسباب الاستقبال الطيّب لها، ليس فقط في مضامينها ومُرسلاتها، سيّما وأن الحديث هنا عن زمنٍ كانت الحرّيات الصحافية في الأردن ضيقة، وإنما أيضا في كتابتها نفسها، في مبناها ولغتها وجملتها، في إيقاعها، في نأيها عن التأنّق، وفي حفاظها، في الوقت نفسه، على وضوح العبارة وكثافتها، في مستوىً ثقافيٍّ لها، لا يتعالى على القارئ، وإنما يتباسط معه، ويلتقي معه في مساحات النثر اليومي المُتداول، البعيد، بداهةً، عن الهابط، بل الجذّاب في إيقاعه وارتباطه بالحياة وتفاصيلها.
أقول إن زمناً ذهبياً للمقالة الصحافية النابهة، الذكية، القادرة على "الصّحبة" مع قارئها، قد انتهى. وليس في التأشير إلى هذا هنا نزوعٌ إلى التغنّي بكل ماضٍ، وإنما هو التحديق في الشحوب العام الذي يتسيّد الكثير مما يحسبها أصحابُها مقالاتٍ يكتبونها وينشرونها بزهوٍ يجعلنا نستذكر الزمن الذي كان فخري قعوار من أعلامه. وبطبيعة الحال، إنْ لا يستقيم تعميم هذا القول بالإطلاق، إلا أن الاستثناءات النادرة، المعدودة، والتي يُشار إلى تميّزها، مقالاتٍ عالية القيمة والسويّة، لا تُلغي أبداً القول، من دون حرجٍ أو تحسّب، إن البؤس مقيمٌ في راهن المقالة الصحافية في الأردن. ومن شواهد على هذا ملحوظةٍ أن بعض من كانوا، في أطوارٍ مضت، أقلاماً رفيعةً في كتابة مقالةٍ صحافيةٍ يوميةٍ أو أسبوعية، ما عادوا كذلك، فصار جائزاً السؤال عمّا يجعلهم يواظبون على نشر ما ينشرونه. وإذا صحّ أن من أسباب هذا التشخيص ما أحدثته وسائط التواصل الاجتماعي ومنصّاته من سيولةٍ ظاهرةٍ تخصم من "فنيّة" المقالة الصحافية وعذوبتها، فإن هذا لا يُعفي من يتصدّرون كتابة المقالات، القصيرة والطويلة، من استحقاقاتٍ لا يجوز التسامح معها، ومنها الثقافة والمعجم اللغوي الواسع والخيال، وعدم الاستسلام للبساطة عندما تعني الفراغ والضعف، والتي لا تتوازى مع العمق والنباهة والذكاء والجملة الموحية. وقد أبلغنا شيخُنا أبو هلال العسكري، في كتابه "الصناعتيْن"، إن "الكلام إذا كان لفظهُ غثّاً، ومعرضُهُ رثّاً، كان مردوداً، ولو احتوى على أجلّ معنىً وأنبله، وأرفعه وأفضله". ومن نافلٍ أن يجري التذكير هنا بالبديهيّة إيّاها إن سويّة المقالة الصحافية ليست في مقولتها (على أهميّتها)، وإنما، قبلها وبعدها، في الكيفيّات البنائية والأسلوبية واللغوية التي تنطرح فيه هذه المقولة.
لا يخصّ هذا الذي يسّر رحيل فخري قعوار، رحمه الله، مناسبة الإتيان عليه، راهن المقالة الصحافية في الأردن، وإنما ينسحبُ على مشهدٍ عريضٍ في الصحافة العربية، المقالةُ فيه مُتعبة، مريضة، عاديّة، فلا تُصادف، إلا قليلا، أفكاراً على نباهةٍ وحذاقة، لا تلقى اللغة الممتلئة بالإيحاء، ولا النثرية الرائقة، المجلاة بالمعنى والمغزى بإيجازٍ وكثافةٍ ضروريين. ثمّة الإسهاب والتطويل والحشو والرتابة والإخوانيات الذاتية والجفاف والمعجم الضيق، وثمّة انتفاخٌ في كتّابٍ يجعلهم يشعرون بعدم الحاجة إلى التسلّح بمعلوماتٍ موثّقةٍ بخصوص ما يُدلون بصدده من آراء، يداهنون بها هذه السلطة أو تلك، أو يجاملون بها هذا المسؤول أو ذاك، أو عندما يُفتون في الديمقراطيات والمقاومة وإسرائيل وحزب الله وترامب وأوكرانيا.
أتذكّرها مقالة فخري قعوار، تجول في شؤون بالغة المحلية في الأردن، وتطوف في مسائل أخرى بلا عدد. كانت مقالةً تتوفّر على المؤانسة والإمتاع، على صداقةٍ مع القارئ، بنباهةٍ وذكاء ... وبدهاء أحياناً. أتذكّرها لأنها غائبة، لأن كثيراً مما نقرأ يأخذُنا إليها وإلى غيابها.