العقلية الحكومية في مصر والتحوّل إلى الفاتورة الإلكترونية
إحدى علامات التطور والتحديث أن تتجه الخدمات الحكومية في أي بلد إلى الميكنة والرقمنة وتقليل الاعتماد على الموظفين في تقديمها إلى الحد الأدنى، لتجاوز المشكلات البيروقراطية، وتقليل الفساد، وتعطيل الأعمال إلى الحد الأدنى، وإنْ كان هذا يعمل في عكس اتجاه سياسات التشغيل وعكس المنطق الاقتصادي والاجتماعي الذي ينظر إلى التأثير على البشر وقيم العمل أولوية أولى، ولكن ليس هذا محل نقاش هذه المقالة.
كنت أتحدّث، قبل سنوات، مع أحد الشباب من مستشاري وزارة المالية المصرية، في ظل أزمة شحّ بعض السلع، وفي إطار الحديث عن التهرب الضريبي. تناقشنا في أنه لا بد من وجود نظام إلكتروني دقيق لحصر حركة السلع والبضائع والخدمات كافة وفوترتها، بما يتيح معرفة أدق تفاصيلها لحظياً للمتعاملين في السوق ولمن في السلطة، وأن هذا يجب أن يكون سياسة دولة وقناعة شعب، حتى يسهُل توفير أهم المعلومات عن السوق للمستهلكين والمنتجين والدولة، وحتى تستبق الخطط أي أزمة، وتقلل من فرص حدوثها بالذات في السلع الأساسية، وتقلل فرص التلاعب بأسعارها، كما أنها ستقضي على التقدير الجزافي للضرائب ولجانها التي تشبه الدوامات التي لا تنتهي، وتتّجه بالتهرب الضريبي الكبير في مصر إلى الصفر. وبغير نظامٍ كهذا، لن تكون هناك فرصة لتقليل مثل هذا التهرّب الكبير، وتوفير موارد مالية للدولة تغنيها بشكل كبير عن الاستدانة من الداخل والخارج.
أثار قرار وزير المالية المصري، محمد معيط، تطبيق نظام الفاتورة الإلكترونية، والذي يجبر أصحاب المهن الحرّة والمحامين والأطباء والمهندسين والاستشاريين، بتسجيل أنشطتهم في المنظومة الجديدة بحد أقصى 15 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، جدلاً كبيراً. وشهدت نقابة المحامين تظاهرة احتجاجية الأسبوع الماضي للضغط من أجل استثنائهم من هذه المنظومة، التي يجري تطبيقها على الجميع منذ 2020، لكنها لم تصل إلى ساحة المهن الحرة سوى أخيراً.
تتعامل الحكومة المصرية مع التشريع باعتباره مهمة حكومية لا علاقة لأحد بها
مؤسفٌ حقاً أن يصبح المحامون أول المعترضين والساعين إلى الاستثناء من نظام الفاتورة الإلكترونية، لكن لا عجب فلم يستشر أحد المحامين أو غيرهم من الفئات عند سن قانون الفاتورة الإلكترونية، كما أنهم، وكغيرهم من المواطنين المصريين، لا يحصلون على خدمات عامة جيدة في المحاكم أو خارجها نظير هذه المتحصلات الجديدة، وتحمّلهم الحكومة، كما تحمّل غيرهم، عدة رسوم مبالغا فيها للاشتراك في المنظومة الجديدة، كما لو كانت تبيع لهم أوراقا ومواصلات ومرافق وخدمات وأجهزة لم يستعملوها وهي تفترض توفيرها عليهم.
تتعامل الحكومة المصرية مع التشريع باعتباره مهمة حكومية لا علاقة لأحد بها، فإذا ما خرجت القوانين مشوّهة، وهو السائد، فإنه يجري تعديلها في الواقع بالاستثناءات والتأجيلات التي تصبح النمط السائد. رأينا هذا في قانون مخالفات البناء، وقانون الشهر العقاري والتوثيق، وعشرات القوانين، إذ تُختصر عملية سلق القوانين وتسريع وتيرتها من أجل جباية سريعة لحلّ أزمة اقتصادية وتمويلية حادّة تعتقد السلطة أنها تستطيع حلها بأوامر من الرئاسة، من دون النظر إلى السياق، فتتحول إلى أزمة دولة، استثناءات غير قادرة على فرض قوانينها وتفقد شرعيتها لدى قطاعات أوسع كلّ يوم.
عند استخراج أي وثيقة رسمية إلكترونياً سوف تدفع رسوم الخدمة الإلكترونية، أو رسوم دفع إلكتروني، لتحصل على إيصال ورقي تعود لتقديمه للموظف
تتعامل الحكومة كذلك مع المواطنين باعتبارهم أبقاراً حلوبة، وعليها أن تطوّر قدراتها ذاتيا للارتقاء بإنتاجها من خمسة لترات في اليوم إلى 25، حسب الطلب الحكومي على الأموال، وهو طلبٌ لا ينتهي ولا يعرف أين تذهب متحصلاته، يقول الرئيس عبد الفتاح السيسي في مؤتمراته، أخيراً: عندما أسأل عن التحصيل والعائدات لا أجد إجابة.
لا أحد في العالم كله تقريباً يدفع رسوم تسجيل دخول أو اسم مستخدم وكلمة مرور لدخول أي موقع إلكتروني حكومي سوى في مصر، ولست أدري من العبقري الذي أقنع السلطة أن هذه الوسيلة سوف تسرّع من وتيرة الرقمنة وتحوّل الاقتصاد غير الرسمي إلى رسمي بسرعة، ودمجه في السوق بديلاً عن السوق المصرية الدارجة.
من عجائب التحوّل الرقمي في مصر، وربما يتحوّل إلى واحد من عجائب الدنيا السبع، أنك في أم الدنيا عند استخراج أي وثيقة رسمية إلكترونياً سوف تدفع رسوم الخدمة الإلكترونية، أو رسوم دفع إلكتروني، لتحصل على إيصال ورقي تعود لتقديمه للموظف، وأخيراً رسوم تسجيل على بوابات الحج أو العمرة أو الفاتورة الإلكترونية أو مصلحة الضرائب، وهي ليست رسوماً بسيطة وإنما مبالغ فيها. المنطق الحكومي السائد وراء هذه المدفوعات أنّ الحكومة وفّرت وقتاً وجهداً ومالاً على المستخدم، وبالتالي، تريد تحصيله منه، وهو تحصيل مبالغ في تقدير قيمته في كلّ الخدمات الحكومية في مصر. لكن، عادة ما يقبل المواطنون هذا تارة مكرهين، وتارات راضين، إذ يريدون الخلاص من أي تعامل مع موظفي الحكومة وطوابيرها التي ضاع فيها من أعمارهم وأموالهم وصحّتهم الكثير.
العقلية العسكرية الأوتوقراطية كفيلة بتفريغ كلّ شيء من مضمونه من دون تحقيق الأهداف المرجوة
ومع أنّ المنطق السليم يقول إنّه بتطبيق هذه الوسائل الرقمية ليس المستهلك وحده من يوفر وقتاً وجهداً وأموالاً، بل الحكومة أيضاً وفرت وقتاً وجهداً وأموالاً، وسوف تمتنع عن تعيين موظفين جدد، وتكتفي بالميكنة وتحصّل ضرائب ورسوماً أعلى بكثير مما كانت تحصّل من قبل، إذا طبقت هذه الأنظمة بشكل سليم، ولو طبقتها مجاناً تماماً، بل كان المنطق التسويقي لهذه الخدمات يقتضي أن تشجّع الحكومة المواطنين على التسجيل في هذه المنظومة، سواء بإمدادهم بأنظمة وتطبيقات إلكترونية وتدريبهم عليها، أو بإعفاءات ومحفّزات، ولو مؤقتاً في البداية، كي يقبلوا عليها.
العجيب والغريب هنا أن القيادات النقابية المعترضة على هذا القرار لا تعترض على مبدأ التكلفة الذي تقرّه هذه القرارات لمجرد التسجيل، إنما على أن هذه التكلفة مرتفعة وعلى موعد وآليات تطبيقها، أي إنهم يقبلون ضمنياً بمبدأ تسعير تلك الخدمات الإلكترونية وتسليعها. والحقيقة أنّ منطقهم متخاذل، ويبرّر موقف الحكومة في بيع اسم المستخدم وكلمة المرور وخدمات البوابات الإلكترونية، فهو يطالب بالاستثناء للمحامين من دفع بعض الرسوم أو تأجيل العمل بها ثلاثة أشهر، واستبعاد محامي الجدول العام والإدارات القانونية والمحامين المقيدين بجداول غير المشتغلين، والذين يعملون في مكاتب محاماة مقابل أجر شهري، والابتدائي خمس سنوات من تاريخ القيد، وهو أمر إن تحقق سوف تلجأ نقابات أخرى لمثل هذه الاستثناءات.
لكنّها العقلية العسكرية الأوتوقراطية الكفيلة بتفريغ كل شيء من مضمونه من دون تحقيق الأهداف المرجوة، ولا الحصول على الرضا الشعبي، أو القدرة على إثبات القوة بالجبر والتعسّف في استخدامها، وإذا استبعدنا المنطق والأهداف غير المالية المهمة في قوانين عديدة تأخر تطبيقها، فعلى هؤلاء أن يسألوا أنفسهم وأجهزة معلوماتهم هل حققت قوانين مخالفات البناء أو قانون الشهر العقاري والتوثيق أهدافها المالية المتعلقة فقط بالمتحصلات التي قدّرت بعشرات المليارات حينها؟