العنف في فرنسا
لم يعد العنف في فرنسا حقّا شرعيا وحصريا للدولة وحدها، بل بات أحد عناصر المشهدين السياسي والاجتماعي، وتحوّل إلى سلاح للضغط والاحتجاج والرفض. وواجه البلد عدة موجات كبيرة منذ عام 2005، الذي شهد ما تعرف بـ"انتفاضة الضواحي" ضد أخطاء بعض أجهزة الشرطة، ولم يصل إلى مستويات خطيرة، كالتي بلغها في عهد الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، الذي ظهرت في الأعوام الأخيرة من ولايته الأولى حركة "السترات الصفراء"، التي بقيت تتظاهر كل يوم سبت عامين، ثم اختفت بسبب انتشار وباء كوفيد - 19، بعدما خلّفت وراءها خسائر على مستوى الاقتصاد، وألحقت أضرارا ببعض المتظاهرين والشرطة، بسبب استخدام العنف من الطرفين. ولم يكن العام الحالي أقلّ سوءا، نتيجة المظاهرات العنيفة التي خرجت للضغط على الحكومة من أجل التراجع عن مشروع قانون تعديل سن التقاعد، الذي فرضته من خارج البرلمان، ما أدّى إلى حالة من التوتر بين النقابات (ومعها أحزاب المعارضة السياسية) وماكرون. ولسوء حظ الرئيس، حصل حادث مقتل الشاب نائل في 27 من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، على يد شرطي فرنسي، وسط هذه الحالة من الاحتقان والتوتّر وعدم وجود قنوات حوار بين الحكومة والنقابات (والمعارضة).
شكّل الوضع المتوتر ما يشبه الحاضنة للانفجار، الذي تلا مقتل نائل، ولكنه ليس المسؤول عن أعمال العنف، التي باتت تتكرّر بوتائر أعلى، تضرّ بالدولة وتهدّد السلم الأهلي. وصارت الأسباب معروفة، منها غياب الحوار السياسي، الفقر، الجهل، الأمية، الجنوح والجريمة، وانعدام الأفق أمام جيلٍ من أبناء ضواحي الهجرة، بلا تعليم أو شهادات، وعدم اهتمام من أجهزة الدولة، بالإضافة إلى جهاز شرطة يعاني من عيوبٍ كثيرة، أهمها عدم الخضوع لتدريبٍ جيّد يؤهله لفرض سلطة الدولة والقانون من دون عنف، وبما يتناسب مع الأوضاع الخاصّة لهذه الضواحي التي تعاني من التهميش والإهمال. وهذا يعني أن الخدمات الأساسية من تعليم وصحة في حالة مزرية، وتعرّضت لانهيار تدريجي خلال العقود الأخيرة. وبشهادة الأوساط الرسمية وغير الرسمية، ازداد الوضع الذي أدّى إلى انتفاضة 2005 سوءا عدّة مرات، ولم تبذل الحكومات المتعاقبة من اليمين واليسار أي جهد من أجل تحسين حال الضواحي على نحوٍ يخفّف من الاحتقان وينهي ظواهر الاستقطاب، ومداواة الشعور بالتمييز والعنصرية.
لا يقتصر الأمر على الأسباب أعلاه، بل برزت العنصرية خلال العقدين الأخيرين عاملا مؤثّرا فاقم من سوء الأوضاع وزادها احتقانا. وترافق ذلك مع خطاب سياسي وإعلامي عنيف ضد الهجرة، ووصول تيارات اليمين المتطرّف إلى البرلمان، حتى بلغ رصيدُها مستوىً غيّر في المعادلات السياسية. وفي الانتخابات التشريعية العام الماضي (2022)، حصل حزب التجمّع الوطني (العنصري) على حوالي 90 نائبا، أي قرابة 20% من أعضاء البرلمان، وهي نسبة هزّت الرأي العام، الذي استقبلها بمثابة جرس إنذار ينبّه من مخاطر انفجار قادم. وهذا لا يعني أن ما حصل في هذه الأيام على صلة مباشرة، بل هو غير منفصل عنه، ويتأثّر به. الأمر الذي يضع على جدول أعمال السلطات الفرنسية إعادة النظر بقوانين كثيرة بهدف رسم الحدود بين المكوّنات.
إسبانيا وإيطاليا غير بعيدتين عن فرنسا، لجهة استقبال مئات آلاف من المهاجرين من أصول مغاربية، ولكن لم يسبق لهما أن واجهتا أوضاعا متفجّرة، كالتي تمرّ بها فرنسا بين فترة وأخرى. ويعود السبب في ذلك إلى ماضي الاستعمار الفرنسي في الجزائر على وجه التحديد، والذي لا تزال بعض ملفاته الحسّاسة مفتوحة ومن دون علاج. وينسحب ذلك على بعض بلدان القارّة السمراء، وهذا ملحوظ من خلال مشاركة الشباب من أصول أفريقية في أحداث العنف، على نحو لا يقلّ عنه من ذوي الأصول المغاربية.