12 مارس 2022
العودة إلى الشارع
على الرغم من اليأس الذي يبثه "مثقفو" الثورات المضادة التي تهندسها قوى لم تعترف بواقع تغيّر، شهد العالم العربي، أخيراً، ثلاثة أحداث تحمل دلالات إيجابية عن المستقبل، وتبيّن أن السيرورة الثورية التي ابتدأها الربيع العربي لم تغلق بعد.
لبنان، البلد المتاخم لسورية الغارقة بدمائها ومأساتها وثورتها المجهضة، والغارق في طائفية سياسية عطلت البلد ورهنت كل طائفة لجهة إقليمية، وأزمة اقتصادية طاحنة مزامنة لتعايش هش بين مكوناته، وبين "شعب واحد" أصبح في بلد واحد، بعد أن كان في بلدين. كل هذه الدماء والمشكلات والخوف لم تمنع اللبنانيين من العودة إلى الشارع، في وقت بدا وكأن الشارع بات "مرذولا" بعد العنف الذي غرقت به بعض الثورات.
تونس، البلد الذي اجتاز مرحلة انتقالية صعبة، ونجا من دماء الربيع العربي وحوافّ الحرب الأهلية، وخاض تجربة وصول الإسلاميين إلى الحكم، وتخليهم عنه ديمقراطياً لصالح سلطة جديدة، تحمل بين طياتها شيئاً من "الثورة المضادة" وشيئاً من عوامل الاستقرار الذي لم يحققه الإسلاميون، ما جعل تونس استثناءً عربياً حتى اللحظة، إلا أن هذا كله لم يمنع التونسيين من العودة إلى الشارع، حين شعروا بأن قوى الثورة المضادة تقدمت لتمسك بمفاصل الثروة والسلطة من خلال قانون "المصالحة الاقتصادية" الذي تجاوز مبادئ العدالة والمحاسبة، فتجاهلوا كل أقوال السلطة عن خطر الإرهاب وضرورة الاستقرار لتحسن الوضع الاقتصادي، لأنهم أدركوا أن "فوضى" يومين (تحتاجهما قوى الثورة المضادة للتمكّن) أفضل من استبداد عقود.
في المغرب، لم يكن ثمة حاجة إلى شارع، بعد أن فتح الربيع المغربي القصير نافذة، على ضآلتها، سياسية للتغيير، فأخذت العملية السياسية مجراها الذي أوصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2011، حاصداً مزيداً من التقدم في الانتخابات المحلية (البلدية والجهوية) اليوم، ما عنى أن ثمة طريقاً ثالثاً غير الثورة حين يتاح، فالشعوب لا تلجأ إلى الشارع والثورات المسلحة إلا حين تُسد بوابات التغيير، من دون أن يعني ذلك أن الإصلاحات التي شهدها المغرب عالجت كل شيء، فثمة انتقادات كثيرة، وسلطة المخزن، مثل أي سلطة، تعمل على امتلاك كل شيء والتحكم به من خلف الكواليس، إلا أن اللعبة السياسية انطلقت. وهنا، تكمن إرادة الأحزاب السياسية التي تستغل الممكن لتوسيع ساحة الفعل السياسي، وتوسيع دائرة المشاركة في صنع القرار.
ما سبق يقدم ثلاثة دروس، الأول أن الشعوب لا تتوقف عن المطالبة بحقوقها، ولا ترضخ لكل ما تشيعه السلطات من ضرورة مكافحة الإرهاب، والحاجة للاستقرار والتخويف من الحروب الأهلية، فالشعب اللبناني لم توقفه المجزرة اليومية التي يعاني منها جاره السوري عن النزول إلى الشارع، خوفاً من أن يرى المصير الذي سبق وجرّب شيئاً منه خلال الحرب الأهلية، كما أن الشعب السوري لم تمنعه المأساة العراقية التي شهد تراجيديا نازحيها على أرضه، بين عامي 2003 و2011، فثار حين يئس من كذبات الإصلاح، والتونسيون لم يمنعهم استثناؤهم من مواصلة الطريق، لا بحجة أننا أفضل من غيرنا، ولا بحجة الحاجة إلى الاستقرار ومكافحة الإرهاب، فالديمقراطية تمتلك آليات تصحيح اعتلالاتها بنفسها، وحين تخرج السلطة عن المعايير يكون الشارع هو الحكم. وهنا، نكون أمام إشكالية الانتقال من الشارع إلى المؤسسات، فالثورة، في نهاية المطاف، لا تتحقق إلا حين تتجلى أهدافها في روح الدولة ومؤسساتها، ما يؤكد الحاجة إلى الاستقرار بعد الثورة، وهو أمر لن يتحقق بين ليلة وضحاها، ثمّة تاريخ ثقيل من الوعي المجتمعي المضاد الذي تستغله قوى الثورة المضادة، ما يعني أننا أمام سيرروة مفتوحة، وستبقى لأن الطريق إلى المستقبل لا يغلق، ولا يقف عد حد.
الثاني، أن الطائفية السياسية التي يبشرنا بعضهم بأنها يمكن أن تكون حلاً في سورية، ها هي تتعرض للنبذ في مسقط رأسها العربي، فشعار "إسقاط النظام الطائفي" الذي أطل إلى جانب شعارات مطلبية كثيرة، يبين عطب هذا النظام، والأهم إمكانية تجاوزه، فالطائفية السياسية ليست قدراً مرسوماً لأبناء تلك المنطقة، وعملية الانتقال من المجتمع الطائفي إلى المدني إمكانية تاريخية قابلة للتحقق، لأن الطائفية (وهو ما بينته انتفاضة لبنان أخيراً) هي الإطار الظاهري لمصالح طغمة برجوازية، تستخدم الطائفية أداة للحفاظ على مصالحها. هي بمثابة الإيديولوجيا القادرة على تحشيد الأتباع، لتمثيلهم والنهب باسمهم، ولعل توافق القيادات الطائفية في فريقي "8 آذار" و"14 آذار" (وهما اللذان لا يتفقان على شيء يذكر) على نبذ الحراك اللبناني، دلالة على أن الطغمة البرجوازية الحاكمة حين تتهدد مصالحها تتحد وتتلاقى، مهما اختلفت سياساتها.
الثالث، يتعلق بفوبيا الإسلام السياسي، إذ يبدو أن التجربة تقدم دروساً مختلفة، ما يعني أن سرير "بروكست" الذي يُقاس الإسلام السياسي عليه غير صالح، ثمّة تجارب قدّم فيها الإسلاميون، حتى اللحظة، توافقا مع القيم الديمقراطية (تونس، المغرب)، وأخرى قدموا فيها تضاداً مطلقاً (سورية)، وثالثة عدم نضج سياسي (مصر)، ورابعة براغماتية سياسية (اليمن)، ما يعني أننا أمام إسلامات سياسية متعددة، ولكل منها تجربتها الخاصة، وهذا ما جعل قسماً من المغاربة يصوتون لحزب العدالة والتنمية، متجاهلين الشيطنة لكل الإسلام السياسي، الذي لن يتمكن أحد من إلغائه، فهو مكوّن موجود، ولكن، يمكن هزمه سياسياً وديمقراطياً، ما يجعل الكرة في ملعب اليساريين والليبراليين والعلمانيين، إذ يتقدّم الإسلاميون وقوى الثورة المضادة، لأن الساحة فارغة، في ظل عجز القوى الثورية الجديدة عن بلورة مشروع سياسي للثورة، قادر على الإمساك بالسلطة.
لبنان، البلد المتاخم لسورية الغارقة بدمائها ومأساتها وثورتها المجهضة، والغارق في طائفية سياسية عطلت البلد ورهنت كل طائفة لجهة إقليمية، وأزمة اقتصادية طاحنة مزامنة لتعايش هش بين مكوناته، وبين "شعب واحد" أصبح في بلد واحد، بعد أن كان في بلدين. كل هذه الدماء والمشكلات والخوف لم تمنع اللبنانيين من العودة إلى الشارع، في وقت بدا وكأن الشارع بات "مرذولا" بعد العنف الذي غرقت به بعض الثورات.
تونس، البلد الذي اجتاز مرحلة انتقالية صعبة، ونجا من دماء الربيع العربي وحوافّ الحرب الأهلية، وخاض تجربة وصول الإسلاميين إلى الحكم، وتخليهم عنه ديمقراطياً لصالح سلطة جديدة، تحمل بين طياتها شيئاً من "الثورة المضادة" وشيئاً من عوامل الاستقرار الذي لم يحققه الإسلاميون، ما جعل تونس استثناءً عربياً حتى اللحظة، إلا أن هذا كله لم يمنع التونسيين من العودة إلى الشارع، حين شعروا بأن قوى الثورة المضادة تقدمت لتمسك بمفاصل الثروة والسلطة من خلال قانون "المصالحة الاقتصادية" الذي تجاوز مبادئ العدالة والمحاسبة، فتجاهلوا كل أقوال السلطة عن خطر الإرهاب وضرورة الاستقرار لتحسن الوضع الاقتصادي، لأنهم أدركوا أن "فوضى" يومين (تحتاجهما قوى الثورة المضادة للتمكّن) أفضل من استبداد عقود.
في المغرب، لم يكن ثمة حاجة إلى شارع، بعد أن فتح الربيع المغربي القصير نافذة، على ضآلتها، سياسية للتغيير، فأخذت العملية السياسية مجراها الذي أوصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2011، حاصداً مزيداً من التقدم في الانتخابات المحلية (البلدية والجهوية) اليوم، ما عنى أن ثمة طريقاً ثالثاً غير الثورة حين يتاح، فالشعوب لا تلجأ إلى الشارع والثورات المسلحة إلا حين تُسد بوابات التغيير، من دون أن يعني ذلك أن الإصلاحات التي شهدها المغرب عالجت كل شيء، فثمة انتقادات كثيرة، وسلطة المخزن، مثل أي سلطة، تعمل على امتلاك كل شيء والتحكم به من خلف الكواليس، إلا أن اللعبة السياسية انطلقت. وهنا، تكمن إرادة الأحزاب السياسية التي تستغل الممكن لتوسيع ساحة الفعل السياسي، وتوسيع دائرة المشاركة في صنع القرار.
ما سبق يقدم ثلاثة دروس، الأول أن الشعوب لا تتوقف عن المطالبة بحقوقها، ولا ترضخ لكل ما تشيعه السلطات من ضرورة مكافحة الإرهاب، والحاجة للاستقرار والتخويف من الحروب الأهلية، فالشعب اللبناني لم توقفه المجزرة اليومية التي يعاني منها جاره السوري عن النزول إلى الشارع، خوفاً من أن يرى المصير الذي سبق وجرّب شيئاً منه خلال الحرب الأهلية، كما أن الشعب السوري لم تمنعه المأساة العراقية التي شهد تراجيديا نازحيها على أرضه، بين عامي 2003 و2011، فثار حين يئس من كذبات الإصلاح، والتونسيون لم يمنعهم استثناؤهم من مواصلة الطريق، لا بحجة أننا أفضل من غيرنا، ولا بحجة الحاجة إلى الاستقرار ومكافحة الإرهاب، فالديمقراطية تمتلك آليات تصحيح اعتلالاتها بنفسها، وحين تخرج السلطة عن المعايير يكون الشارع هو الحكم. وهنا، نكون أمام إشكالية الانتقال من الشارع إلى المؤسسات، فالثورة، في نهاية المطاف، لا تتحقق إلا حين تتجلى أهدافها في روح الدولة ومؤسساتها، ما يؤكد الحاجة إلى الاستقرار بعد الثورة، وهو أمر لن يتحقق بين ليلة وضحاها، ثمّة تاريخ ثقيل من الوعي المجتمعي المضاد الذي تستغله قوى الثورة المضادة، ما يعني أننا أمام سيرروة مفتوحة، وستبقى لأن الطريق إلى المستقبل لا يغلق، ولا يقف عد حد.
الثاني، أن الطائفية السياسية التي يبشرنا بعضهم بأنها يمكن أن تكون حلاً في سورية، ها هي تتعرض للنبذ في مسقط رأسها العربي، فشعار "إسقاط النظام الطائفي" الذي أطل إلى جانب شعارات مطلبية كثيرة، يبين عطب هذا النظام، والأهم إمكانية تجاوزه، فالطائفية السياسية ليست قدراً مرسوماً لأبناء تلك المنطقة، وعملية الانتقال من المجتمع الطائفي إلى المدني إمكانية تاريخية قابلة للتحقق، لأن الطائفية (وهو ما بينته انتفاضة لبنان أخيراً) هي الإطار الظاهري لمصالح طغمة برجوازية، تستخدم الطائفية أداة للحفاظ على مصالحها. هي بمثابة الإيديولوجيا القادرة على تحشيد الأتباع، لتمثيلهم والنهب باسمهم، ولعل توافق القيادات الطائفية في فريقي "8 آذار" و"14 آذار" (وهما اللذان لا يتفقان على شيء يذكر) على نبذ الحراك اللبناني، دلالة على أن الطغمة البرجوازية الحاكمة حين تتهدد مصالحها تتحد وتتلاقى، مهما اختلفت سياساتها.
الثالث، يتعلق بفوبيا الإسلام السياسي، إذ يبدو أن التجربة تقدم دروساً مختلفة، ما يعني أن سرير "بروكست" الذي يُقاس الإسلام السياسي عليه غير صالح، ثمّة تجارب قدّم فيها الإسلاميون، حتى اللحظة، توافقا مع القيم الديمقراطية (تونس، المغرب)، وأخرى قدموا فيها تضاداً مطلقاً (سورية)، وثالثة عدم نضج سياسي (مصر)، ورابعة براغماتية سياسية (اليمن)، ما يعني أننا أمام إسلامات سياسية متعددة، ولكل منها تجربتها الخاصة، وهذا ما جعل قسماً من المغاربة يصوتون لحزب العدالة والتنمية، متجاهلين الشيطنة لكل الإسلام السياسي، الذي لن يتمكن أحد من إلغائه، فهو مكوّن موجود، ولكن، يمكن هزمه سياسياً وديمقراطياً، ما يجعل الكرة في ملعب اليساريين والليبراليين والعلمانيين، إذ يتقدّم الإسلاميون وقوى الثورة المضادة، لأن الساحة فارغة، في ظل عجز القوى الثورية الجديدة عن بلورة مشروع سياسي للثورة، قادر على الإمساك بالسلطة.