الفتى الذي مات محترقاً
مات وهو يحلم أن ينجو من هذه المحرقة. لم يكن يعلم أنه سوف يحترق فيها، ويكون وجبة لنارها، وسوف يرى العالم صورته والنيران تأكل جسده النحيل، فيما يتعالى صراخ باقي أفراد عائلته، ولكن أحداً لم يستطع إنقاذه. ولذلك عليك أن تعرف أن أحلامهم لا تتحقق، وأن الموت يتربّص بهم، وعليهم أن يتوقفوا عن بثّ أحلامهم الموجعة لعالمٍ أصمّ، أو لعالمٍ قليل الحيلة، مثلما رأيت شريطاً مصوّراً له وهو يتحدّث عن حبّه الفن، وعن حلمه بأن ينجو ويسافر، لكي يعزف على آلته الموسيقية المحبّبة، بعيداً عن كل هذا الجحيم المحيط به، والذي أودى به في النهاية، وكأنه يتحدّاه ويدلي بلسانه نحوه، في نشوة مجنونة قائلاً له: لا مكان هنا إلا للموت.
فُجعت قلوبنا، واهتزّت ضمائرنا، لمشهد الفتى الصغير، شعبان الدلو، وهو يحترق حيّاً، في خيمة مقامة حول باحة واحد من المستشفيات التي ما زالت تقاوم في وسط قطاع غزّة، وحيث أصبح هذا المستشفى قبلة للمصابين والجرحى والمرضى، الذين لاذوا إلى منطقة الوسط بعد تهجيرهم القسري، وحيث يتّخذ الآلاف من النازحين خياماً في محيطه، من أجل التزوّد بقليلٍ من الأمان الواهي، على اعتقادٍ منهم أن المستشفيات تتمتّع بحصانة إنسانية فلا تقصف. وهذه من الكذبات التي يجب أن نتوقّف عن تصديقها، مثل كذبة المنطقة الآمنة، وغيرها من الكذبات التي أثبتت هذه الحرب أن لا أحد يصدّقها، إلا السذّج وضعاف العقول. ومثل كذبة أن لا أحد يموت جوعاً، لأن الناس هناك يموتون جوعاً ومرضاً، ويموتون بصور مختلفة كثيرة ومنوّعة، تطلّ علينا كل يوم، حتى بتنا نتوقّع صوراً جديدة، لأن هذا العدو ما زال يبتكر صوراً للموت، وما زال في جعبته الكثير، مثلما رأينا الفتى شعبان يحترق حياً، ومعه أمّه التي كانت تفتخر به دوماً، خاصة لأنه أكبر أبنائها. ويبدو أننا نحن الأمهات، حين نلتصق بأحد الأبناء، يصمّم الموت أن يضع نهاية لنا مع الابن المفضّل والمحبّب، وكأنه يبرع في تعذيب من حولنا، وفي إعطائهم الدروس. وربما كان أحدها أن نتوقف عن الحب العميق، لأننا نفقد الأحبة، وربما نرحل معهم في ميتةٍ بشعة، مثلما رحل شعبان مع أمّه.
تعالى الصراخ في مشهدٍ تقشعر له الأبدان، وفيما كان شعبان الحالم بأن يتجاوز كل هذا الجنون، وأن يخرج إلى عالم آخر، لكي يتشافى من مرض ألم به بسبب تلوث الماء والطعام حوله، وفيما كان يحلم بأن يكمل دراسته في تخصصه البديع "هندسة البرمجيات"، وفيما كان يحلم أيضاً أن يسمع موسيقاه العذبة التي تعزفها أنامله الغضّة البريئة لعشّاق العزف على آلة الغيتار، انقضّ الموت بألسنة من لهبٍ لكي يبتلع كل هذه الأحلام، ولكي يقف باقي أفراد العائلة في قلة حيلة لإنقاذ الأم والابن الأكبر، والذي كان يشعر بمسؤولية كبيرة، تحدّث عنها في شريط مصوّر قصير، حاول أن يوصل من خلاله صوته إلى العالم، وبأنه بحاجة لمن يمد له يده لكي يظل عند حسن ظن إخوته الصغار، الذين يروْنه القائد الذي سوف ينجو بهم ويكتب لهم سطوراً جديدة من حياة بلا عذاب.
احترق الفتى شعبان الدلو مع أمّه، وخمدت الأصوات المستجدية، ولفّ الصمت المكان، ولم يتبقّ من الأم سوى سوار حول معصمها، وعادوا به إلى ابنها الثاني، والذي يبدو أمام الشاشات مذهولاً مما حدث، ولا يصدّق أن الناس قد تموت هكذا في بثٍّ حيٍّ ومباشر، من دون أن ينقذها أحد، وأن من ينجون من ألسنة اللهب هم الذين نراهم في أفلام الإثارة والتشويق، وحيث يُعمل المخرج والمؤلف فكرهما حتى يستطيعا أن يضعا نهاية مُفرحة تسرّ المشاهدين. ولكن هنا لا نهايات مفرحة، حيث يحترق كل شيء، وتُسدل الستارة للمرّة الأخيرة على الأحلام الصغيرة التي لم تكن لتُؤذي أحداً لو تحقّقت، ولكن هناك دائماً في هذا العالم القبيح من لا يطيقون الجمال، ولا يحبّون الأحلام للفتية فيحرقونهم أحياء.