الفرق بين "الثورة" و"الصفقة"
هل تختلف إسرائيل التي تقتل مائة شهيد فلسطيني يوميا عن إسرائيل التي تقتل شهيدين كل ثلاثة أيام، أو تلك التي تصوم عن قتل الفلسطينيين والعرب لشهور أو سنوات؟
السؤال بصيغة أخرى: هل لو حسّن الكيان الصهيوني من شروط الاحتلال ووفر ظروفا أفضل للفلسطينيين- يفتح المعابر ويخفف الحصار ويصير أقل عنصرية- هل يخرجه هذا من كونه عدوا وينقله إلى تصنيف آخر؟
السؤال بتطبيق آخر: هل لو لعب نظام عبد الفتاح السيسي دورا مختلفا في الحرب الصهيونية ضد الفلسطينيين الآن، وتحول من حليف أو شريك في العدوان، إلى طرف منحاز للشعب الفلسطيني، هل ستنتفي عنه هنا صفة أنه نظام انقلابي فاشي، وتسقط عنه اتهامات واضحة بقتل الآلاف من المصريين لكي يستتب له الحكم؟
وهل تكفي خطب بشار الأسد الزاعقة في قوميتها ونضاليتها وهتافها ضد الصهاينة والأميركيين لكي تخرجه من فئة القتلة السفاحين، وتضعه في قائمة الزعماء المدافعين عن قضايا الأمة؟
وهل تكفي هتافات حسن نصر الله المدوية للمقاومة لكي تغسل ثوبه من دماء سورية ساهم في إراقتها بانحيازه للنظام القاتل هناك؟
هل أنت ضد الانقلابات والنظم المستبدة لأنها تهدد مصالحك، أم أنك ضدها من حيث المبدأ؟
السؤال الأخير أجاب عنه الزعيم التركي رجب طيب أردوغان في لقاء مع مجموعة من علماء الدين السنة والشيعة في اسطنبول منذ أيام ، حين أعلن ببلاغة نادرة تعليقا على تعليق بشار الأسد بشأن العدوان الصهيوني على غزة أن القاتل يظل قاتلا حتى لو أعلن عداءه لإسرائيل، وتضامنه مع غزة.
وهذه الإجابة تبزغ كموقف أخلاقي سليم متسق مع مجموعة من القيم الموضوعية التي تبقى- أو هكذا أتصور أو كنت- ثابتة لا تتغير بتغير الظروف وتبدل الوجوه واختلاف الزمان والمكان، ولعل في ذلك سر نصاعة وبهاء المواقف التركية والتونسية والقطرية من قضايا مثل المجزرة التي ترتكب بحق الشعب السوري الثائر ضد نظام بشار الأسد، والمقتلة التي تحصد مناهضي الانقلاب العسكري في مصر.
إن مقاومة الاحتلال ومناهضة الاستبداد هي مسألة أخلاقية بالأساس، ينبغي لها أن تبقى بعيدة عن قوانين السوق وحركة الأسهم في بورصة المواقف السياسية، ومترفعة عن قواعد السمسرة والانتهازية والبرجماتية، أو كما ذهب مارتن لوثر كينج: تظل الغايات النبيلة بحاجة إلى وسائل نبيلة أيضا.
لقد أصيبت ثورات الربيع العربي مبكراً بفيروس الصفقة فتعثرت وترنحت، وهي إذ تحاول النهوض ولملمة جراحها لن تعرف طريقا للتحقق إن تعلمت مهارات الربح السريع، كأن تحاول مثلا العمل وفقا لقاعدة "عدو عدوي صديقي" فتسعى لاستقطاب حلفاء انتهازيين من خارجها تلتقي مصالحهم مع أهدافها، فالثابت يقينا أنك لا تستطيع أن تستدعي انتهازيا دون أن تستدعي الانتهازية كقيمة وكمنهج.
إن مقاومة الطغيان (الثورة) ومحاربة الاحتلال (المقاومة) هي فعل أخلاقي محض، وحسب فكرة الواجب كما وردت بكل صرامتها ووضوحها عند فلاسفة كُثُر يأتي في مقدمتهم الألماني " إمانويل كانط"فإن القاعدة الذهبية للفعل الأخلاقي تقول"افعل بحيث يمكن لقاعدة فعلك أن تكون قانونا عاما"والمعنى أن تكون "الإرادة الخيرة"هي المحرك للفعل أو طلب الفعل وليس اعتبارات المصلحة والمنفعة المرتبطة بموقف أو ظرف تاريخي معين.
إن المنطق يقول إن من قتل آلافا من شعبه بدم بارد خلال ساعات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون حريصا على دماء شعب شقيق، ومن استصدر حكما قضائيا باعتبار مقاومة المحتل إرهابا لا يمكن لعاقل أو نصف عاقل أن يتوقع منه دورا في الحفاظ على هذه المقاومة، لذا أندهش كثيرا ممن يلوحون للقتلة بأوسمة الشرف المجانية.