القبض على خفّة دم المصريين
كان الرئيس جمال عبد الناصر ينزعج من النكت السياسية، وأحياناً يخشاها، ويحذّر منها، بوصفها مؤامرة، كما حدث في أحد خطاباته، بعد هزيمة يونيو 1967، حين أشار إلى أنّه يعرف الشعب المصري، ويعرف أنّ التنكيت طبعٌ فيه، لكنّه يخشى أن تتحوّل النكت إلى ثغرةٍ يمرّ منها العدو. يروي الكاتب الصحافي طايع الديب، في كتابه البديع "جمهورية الضحك الأولى" أنّ عبد الرحمن الخميسي ومحمود السعدني وكامل الشناوي كانوا يجلسون، في الخمسينيات، على قهوة عبد الله في الجيزة، ويطلقون النكات على مجتمع ما بعد ثورة يوليو، ومشاهيره، خصوصاً الضباط، وفي اليوم التالي تصبح النكتة على كلّ لسان، بعد أن يتناقلها روّاد القهوة، فصدر قرار بنقل الخميسي من عمله في صحيفة الجمهورية إلى شركة باتا للأحذية، بدعوى أنّه من أعداء الثورة. وتعرّض السعدني للاعتقال، غير مرّة، لهذا السبب وغيره، وهدّد عبد الناصر الشناوي بنفسه في مناسبة عامة، وظلّ الشناوي حبيس بيته إلى أن توسّط له عبد الحليم حافظ، فسمح عبد الناصر بخروجه، شريطة أن يتوقف عن التنكيت على الضباط!
ساءت الأحوال الاقتصادية بعد الهزيمة، وضجّ الناس، وأخذوا يؤلفون النكات على الأوضاع الاقتصادية التي لم تكن أسوأ مما يعيشه المصريون الآن، رغم الحرب والهزيمة والانشغال ببناء جيشٍ جديد، والاستعداد للمعركة، والذي ساهم فيه عبد الناصر بشكلٍ كبير في سنواته الثلاث الأخيرة. ويروي الكاتب الصحافي محمود عوض، في كتابه "بالعربي الجريح" عن لقاء جمع عبد الناصر بضباط في القوات المسلحة عام 1969، واستهله عبد الناصر بنكتة تقول: "مرّة واحد راح الجمعية يشتري سمك، وقف طابور طويل، واشترى، وراح لمراته طلب منها تقلي السمك، فقالت له مفيش زيت، قال لها خلاص نشويه، فقالت له مفيش غاز، الأنبوبة فاضية، فقال لها خذي من الجيران، لفّت على جاراتها واحدة واحدة، كلهم نفس الحكاية، مفيش زيت، مفيش غاز، مفيش فايدة، أخذ الرجل السمك ونزل يشويه في محل بفلوس، لقى المحلات كلها قافلة، يئس الرجل ورمى السمك في النيل، السمك ردت فيه الروح وهتف: يعيش الرئيس جمال عبد الناصر".
يسخر عبد الناصر من نفسه، من شعبيته، من مسؤوليته عن سوء الأحوال، ويفعلها أمام ضباطه، ليس لأنّه ديمقراطي و"بحبوح" لكن لأنّه ذكي، و"صايع"، يفهم الظرف، وإملاءاته، وإكراهاته. مات عبد الناصر وجاء السادات، وكان أكثر بروداً في التعامل مع نكت المصريين، حتى أنّ جيهان السادات تروي للإعلامي عمرو الليثي، في برنامج "واحد من الناس" إنّ السادات كان من جمهور نكت المصريين عليه، يحرص على سماعها، ويضحك، ومنها نكتة المصريين الشهيرة أنّ السادات نزل إلى الشارع ونادى على جيهان، وقال لها: "احدفي زبيبة الصلاة عشان نسيتها" في إشارة إلى تديّنه المغشوش. ناهيك عن نكات الضباب السياسي، وأشهرها النكتة التي تشبّه السادات بالحمار، والتي رواها السادات بنفسه، والشيء نفسه يرويه غير واحدٍ من الصحافيين والفنانين المقرّبين، أو الذين كانوا، من حسني مبارك.
كانت النكتة ولم تزل أقدم وسيلة تظاهر سلمي لدى المصريين، كما أنّها دفتر أحوالهم الحقيقية، لا يستطيع أحد، بالغ عاقل مميز، أن يكذّبها أو يمنعها، ولا يستطيع أحدٌ أن يسجنها، إلّا إذا سجن مائة مليون مصري. اكتفى عبد الناصر بمنع النخب التي تؤلف نكاتاً على ضباطه، لكنّه لم يجرؤ، أو حتى يفكّر، أن يقبض على مواطنين بتهمة التنكيت، وحين أزعجته نكات المصريين تودّد لهم في خطاب رسمي، وحذّرهم من أن تكون النكتة مؤامرة على الجيش! الآن يقبض عبد الفتاح السيسي على ثلاثة مواطنين صعايدة، ويودعهم السجن بتهمة إشاعة أخبار كاذبة. نشر الثلاثة فيديو لهم وهم يغنّون "الأسعار نار"، وهي أغنية شائعة، سبق أن غنّاها الممثل والضابط السابق أكرم حسني، ولم يُقبض عليه أو يسجن (لماذا؟) .. غلاء الأسعار أخبار كاذبة؟ ربما تكون هذه هي النكتة الوحيدة التي يستحقّ صاحبها أن يُسجن، وفوراً.