القتل أو الموت في فيلم ألماني
تُغويهم، صنّاعَ السينما ومخرجيها ومنتجيها، الحروبُ الكبرى وشناعاتها، جبهاتها وخنادقها ومعاركها، وما فيها وحواليها من حكاياتٍ لأفرادٍ أو مجاميع شاركوا فيها، أو أصابَتهم مباشرةً تأثيراتٌ منها. تكاد تكون من أهم الموضوعات التي يختبرون فيها مخيّلاتهم وقدراتهم الفنية والتصويرية والأدائية، وكذا توظيف التقنيّات الجديدة، ومحاولة الإبهار، وتظهير الأبعاد النفسية والروحية على ما تُحدِثه الحروب في الأبدان والمصائر. ومعلومٌ أن إنجاز أعمالٍ متفرّدة وعلى سويةٍ عاليةٍ من الإتقان والجمال والتماسك (والإقناع) يحتاج إمكاناتٍ وتجهيزاتٍ وميزانياتٍ كبرى. ولمّا كان الحديث هنا عن الغرب (والولايات المتحدة في طليعته)، فإن حرب فيتنام زوّدت السينما الأميركية، منذ ما قبل "القيامة الآن" (1979) لفرانسيس كوبولا، وما بعده، بموضوعاتٍ إنسانيةٍ وحربيةٍ وسياسيةٍ (وإعلاميةٍ) غزيرةٍ في أفلام لا يتوقّف إنتاجها. وما تنفكّان، الحربان العالميتان، تُسعفان السينما في الغرب وبعض الشرق بتفاصيل متنوّعة (وباهرة غالبا). وما زال الانجذاب كبيرا وكثيرا إلى الأفلام التي لا يكاد عامٌ يخلو من واحدٍ منها، منها "دنكيرك" (كريستوفر نولان، 2017) عن مقطعٍ من بدايات الحرب الثانية و"1917" (سام مينديز، 2019) من إحدى وقائع الأولى، وقبلهما "إنقاذ الجندي رايان" (سبيلبيرغ، 1998)، وغيرها من أفلامٍ مثيرةٍ وشائقةٍ يصعُب عدّها. وهذا "كل شيءٍ هادئ على الجبهة الغربية"، المُنتج أخيرا، يُبهرنا، ويُعجبنا في الوقت نفسه، والذي يُشاهَد حاليا على "نتفليكس"، يؤكّد أن موضوعة الحرب ما زال لها موقعها الأثير في مشاغل كبار أهل السينما الذين يتطلّعون إلى الجديد في الجماليات والمشهديات .. والمُرسلات.
الفيلم ألماني، وهذا معطىً له أهميّته الخاصة، في اللحظتين، الألمانية والعالمية، الراهنتين. يقول مُخرجه إدوارد بيرغر (1970) إن تصاعد الشعبوية والقومية في أوروبا دافعُه إلى إخراج هذا الفيلم الذي ينهض على روايةٍ بالاسم نفسه، أشهرَت صاحبَها، الألماني إريش ماريا ريمارك (1898 – 1970)، المعروف بين جمهورٍ عريضٍ من قرّاء الرواية العرب، فقد نُقلت إلى العربية أربعٌ من رواياته، وحظيت بمقروئيةٍ طيبةٍ، وطُبعت غير مرّة. نشر المتحدَّث عنها هنا في 1929، وقد استوحاها من قصّة مجنّدٍ في الحرب العالمية الأولى التي شارك فيها ريمارك نفسُه، وأصيب بجروحٍ بليغة، ونُقلت إلى 50 لغة، وذاعت بين الملايين في العالم، وعُدّت من أهم الإبداعات الأدبية التي تُناهض الحروب، لتصويرها شناعات القتل والتمويت في المعارك والكمائن والجبهات. كتبها في سويسرا التي أقام فيها قبل أن يستقرّ في الولايات المتحدة التي منحته جنسيّتها. وحظرها النازيون، تاليا، بسبب ما اعتبروه تثبيطا لعزيمة الجندي الألماني فيها. صدرت بالعربية في 1981 عن دار الهلال في القاهرة بترجمة محمود مسعد (عن غير الألمانية)، بعنوان "كل شيءٍ هادئٍ في الميدان الغربي"، ثم في 2020 بترجمة السورية ليندا حسين، عن الألمانية، بعنوان "لا جديد على الجبهة الغربية"، عن دار أثر للنشر والتوزيع في الدّمام. وكثير,ن منا، نحن القرّاء العرب، قد ينصرفون إلى قراءة هذه الرواية اللافتة، بعد نجاح الفيلم، الثالث عن الرواية بعد سابقيْن له في 1930 و1979، ويحيّرك اسمُه، فالقتل أو الموت هو الخيار الوحيد قدّامك على الشاشة، وبمشاهد شديدة الفظاعة تجعلك ترى مطحنةً قاسيةً لجنودٍ يُقتلون بتوحّش، ومن دون أي اكتراثٍ بحياتهم، فالهدوء غائب في الجبهة، ولكن مترجما أستراليا كتب في تقرير عسكري إن "الجبهة الغربية هادئة، لأن كل من فيها موتى".
كتب ريمارك روايته مناهضا للحرب، معنيّا بتصوير ابتذال الإنسان فيها، واسترخاص قيمته، وبالتأشير إلى الهزيمة الألمانية المذلّة أمام الفرنسيين في تلك الجبهة من الحرب، عساه في هذا يساهم في وقف أي اندفاعٍ ألماني تالٍ نحو أي حرب، غير أن أربعة ملايين جندي ألماني قضوا في الحرب العالمية التالية، وها هو الفيلم، الملحمي، الذي أدّى فيه دورَ المجنّد الذي يركز على حكايته النمساوي فيليكس كاميرر يُشاهد فيما الحرب الروسية الأوكرانية (في أوروبا) تمضي في عامها الثاني إلى ما ليس معلوما بعد أيُّ نهاياتٍ لها.
لا يصيّرنا "كل شيء هادئ في الجبهة الغربية" نكرَه الحروب، فلم نحبّها يوما، وهي المقيمة في غير بلد عربي، وتنتقل من مطرحٍ إلى آخر بين ظهرانينا، وإنما يجعلنا نحبّ السينما الفاتنة، ففي تتابع مشاهده فائضٌ كثير منها، مثيرٌ وعالٍ في مقادير الإتقان الوفيرة فيه.