القتل عقوبة الكلام
لقيت مدوّنة عراقية مصرعها الأسبوع الماضي على يد والدها في محافظة الديوانية جنوب العراق. خنقها حتى الموت، ثم اتّجه إلى قسم الشرطة وسلّم نفسه... لا يبدو ذلك تصرّفاً خائفاً من العواقب. الرجل متصالحٌ مع ما فعل، ومستعدٌّ لمواجهة العواقب بكل شجاعة. وهي شجاعة عجيبة، وفي غير موضعها، حين نعلم أن الفتاة، واسمها طيبة العلي (22 عاماً) كانت قد اشتكت من تعرّضها للتحرّش الجنسي من شقيقها. ولم تواجه الأسرة هذا الاتهام بقدرٍ كافٍ من الجدّية، كما واجهت ما اعتبرته عارها من إقامة الفتاة وحدها في تركيا بعيداً عنهم.
لا يبدو هذا الحادث معزولاً عن حوادث مشابهة تقع في دول عربية عدة، بل يمكن القول إنه حادث نمطي، يتكرّر بشكل مخيف، إذ تلقي ثقافتنا عبئاً كبيراً على الفتيات في قضايا التحرّش الجنسي يستند إلى مفهوم "لوم الضحية" أكثر من إدانة الجاني. ما يجعل الضحية دائماً بين ناري المعاناة الصامتة، أو تلقّي اللوم والعقاب إذا ما باحت بما وقع عليها.
في السنوات الأخيرة، وربما بفضل انتشار "السوشيال ميديا"، نشطت الفتيات العربيات في الاعتراف بجرائم التحرّش الجنسي التي يقعن ضحايا لها، وفي البوح عنها. وبفضل مواقع مثل "فيسبوك" و"تويتر" أصبحت للناجيات مساحة للكلام، لكن ثقافة الوصم ما زالت متفشّية في مجتمعاتنا، بعكس مجتمعاتٍ أخرى، لم تعد تدين ضحية التحرّش، وتطالبها بـ "ستر نفسها إذ سترها الله"، كأنها المجرمة لا الضحية. ويُظهر رصد سريع لتعليقات المتفاعلين مع بلاغات الناجيات في مواقع التواصل الاجتماعي كيف تؤمن مجتمعاتنا بمبدأ عاجز يقول "الفتاة المحترمة لا تفضح نفسها بإعلان أنها وقعت ضحية حادثة تحرّش".
قبل أشهر عدة، تابعت على "فيسبوك" تعليقات المتفاعلين على شكوى فتاة من أنها تعرّضت للتحرّش من زميل شقيقها، فلفتني تعليق سيدة تزجرها وتذكّرها بأن لا أحد سيتزوجها بعد أن أعلنت هذا. تعتقد هذه السيدة النموذج أن الصمت واحتمال ما حدث أمر جيد يمكن مقايضته بالزواج، لأن الشاكية ستتحوّل إلى فتاة موصومة، لن يقترب منها "الرجال أصحاب الشرف والنخوة". هذا الشرف وهذه النخوة ما جعلا والد المدوّنة، طيبة العلي، يقتلها خنقاً، ثم يسلّم نفسه إلى السلطات. فهو، بمعايير الثقافة التي ينتمي إليها، قد غسل عارَه. وهكذا تخلّص من وصمة الابنة التي تعيش في تركيا بعيداً عن الأسرة، وتثرثر عن تعرّضها للاعتداء الجنسي. في هذه الثقافة، يصبح على الرجل (أب، أخ، زوج، عم ... إلخ) أن يتخذ موقفاً حاسماً يغسل به عاره. وفي كل الحالات، اللهم إلا حالات شديدة الندرة، يكون غسل العار بالاعتداء على الفتاة، لا محاسبة المعتدي.
تجعلنا هذه الثقافة نفهم لماذا تُخبرنا الإحصائيات بأن حوادث العنف المنزلي والتحرّش الجنسي تبدو أكثر عدداً في المجتمعات الأوروبية منها في المجتمعات العربية، لأن تلك مجتمعاتٌ، في أغلبها، لا تدين الضحية، ولا تغسل عارَها بمحاولة كتم صوت الناجية. هذه مجتمعاتٌ لديها ثقافة تمكّن الناجية من الشكوى والبوح، لذلك تمتلئ ملفّاتها بالشكاوى التي لا تخشى صاحباتها وصمة المجتمع. بينما نُجبر الضحايا في مجتمعاتنا على الصمت، خشية الوصم، أو القتل. فحين يصبح القتل عقوبة للكلام، لا لوم على الضحايا إن اخترْن الصمت. لكن المؤكّد أن هذا صمتٌ لن يستمر طويلاً، وأنها ثقافة لن تصمد أمام التغيرات المجتمعية الجارفة. ومع تزايد قوّة الحركات النسوية، وانتشار الوعي، يمكن التفاؤل بأن الضحايا سيصبح من حقّهن الكلام بلا خوفٍ في مجتمعاتنا. وعندها، يمكن أن نعرف الأرقام الحقيقية لمدى انتشار هذه الحوادث عندنا مقارنة بمجتمعات أخرى.