القتل ينمو ولا أحد يوقفه
عندما أقرأ خبراً عن جريمة قتلٍ عمداً، أو عن قرار إعدامٍ بحق متهم، أسأل: ما هي الدروس المُستقاة من القتل عندما يكون عقوبة؟ برأيي أن كلا من وجهي القتل، عمداً أم مشرّعاً، مُجرّم ومرفوض، وأشعر أنهما فعلان ينزعان إلى منطق بتر الحقيقة، فالشاب المتهم الذي طعن عمداً زميلته الطالبة نيرة أشرف ثم ذبحها، في مصر أخيرا، أو الشاب الذي أطلق النار فقتل الطالبة إيمان إرشيد، في الأردن، تيمناً بمبررات القاتل الأول، كلاهما نتيجة حتميّة لظواهر نموّ العنف بناءً على الاختلاف أو عدم التبعيّة. والعواقب المقبلة، قانونياً، ليست إلا بتراً لجزء من ورم يتفاقم في كلّ المنطقة، دعوني أسمِّه "ورم القصاص"، إذ لن يتعذّب الجاني في كل من الحادثتين، لو قطع رأسه أو تم شنقه أو أطلق النار عليه، بعد حكم "الإعدام" المقبل، فالكارثة المتجذّرة في جسد المجتمع سوف تستمر بالنمو وبإيجاد مزيد من المبرّرات لإنهاء حيوات أشخاص "مذنبين" بالمعنى الفردي، أو حسب أعراف المجتمع. وهنا للتهم وجهان؛ الأول متمثلاً بأسباب الحوادث الفرديّة، أخيرا، وسط النهار وضمن الحرم الجامعي أو في الشارع أمام عيون الناس، حيث جرى القتل، والوجه الآخر متمثلاً بقرار جماعي وجاهي مقبل غير قابل للطعن، حيث سيتم الإعدام.
هل تجوز فرضية أن ما يحدث من جرائم قتل فردية لا تمثل إلا الأفراد أنفسهم، وليس المجتمعات التي يعيشون فيها؟ وهل يصدق هذا على جرائم تحدث يوميا، ولا يوثقها الفيديو، حيث إن أمّاً قتلت أولادها الثلاثة ذبحاً في مصر قبل فترة وجيزة، وإن أباً أطلق الرصاص على أولاده الثلاثة في سورية قبل شهور، وإن رجلاً "مختلاً نفسياً" قطع رأس رجل آخر وراح يمشي في الشارع وهو يحمل رأس الضحية .. إلخ؛ هل يكفي تذكر كلّ ذلك للوصول إلى نتيجة مرعبة، هي عادة القتل؟ ثمّ إيجاد المبررات الفرديّة أو القانونيّة أو الشرعيّة؟ جواب التذكر هنا لن يردع الأفكار والنيات الإجرامية أو يفهم سبب الفعل نفسه، ثمّ مهما كان الحال، القرار جاهز في معظم دول المنطقة العربية: القاتل يُقتل!
يقول بعضهم إن إعدام المجرم يشفي غليل أهل الضحية. لكن، حتى هذه الصورة فيها من العنف ما يكفي ليجعلنا في رعبٍ دائم من هذا التبرير
أعتقد أن السواد الأعظم من الأفراد يتأثرون بما يرون ويسمعون، وأن جزءاً منهم، ربّما، باع وعيه، بقصد أو دونه، للشاشات والضوء ولوثة المقارنات والتشبّه "بالأبطال" حسب منظورهم، هؤلاء لن تخيفهم عقوبة الإعدام، يميلون إلى الجانب الانتقامي في النفس البشرية، يقبلون على فعل القتل حسب أسبابهم وأفكارهم، ولن تؤلمهم نهاية الحياة؛ لأنّ الميت لا يشعر بالوجع! وقد لا ينتبه إلى هذه النتيجة البديهيّة صنّاع القانون، إذ إنهم لم يواجهوا هنا العقل الذي فعل إنهاء حياة أحدهم أو مجموعة ما، إنما أقرّوا أن لا مكان لصاحب هذا العقل والجسد في الحياة، وأي تجريدٍ من الحقوق ذاك! هو يعلم جيداً أنه في كلّ الأحوال سيموت، إذاً لماذا لا نبحث في المبرّرات المزعومة للقتل، ونحاول أن نبطلها؟
يقول بعضهم إن إعدام المجرم يشفي غليل أهل الضحية، وحتى هذه الصورة فيها من العنف ما يكفي ليجعلنا في رعبٍ دائم من هذا التبرير، لا أدعو هنا إلى العناق وأخذ القاتل على أنه مريض نفسي، وهو قد يكون حاملاً أفكار الإجرام عن سابق إصرار وترصّد، وله مكانة اجتماعية ملفتة، وقد يكون ذكياً وله باع في الثقافة أو أحد أبواب المعرفة، إلا أن ذلك لا أهمية له، لأنه يملك قيمة النية المؤجلة للذين ينتظرون التشفّي بموت القاتل. وفي الحالتين، ثمّة تنمية عميقة للعنف وتبريره.
هل تجوز فرضية أن ما يحدث من جرائم قتل فردية لا تمثل إلا الأفراد أنفسهم؟
أعتقد أن العنف المتصاعد باستمرار في كلّ شيء، بداية من ألعاب الفيديو التي تظهر الذبح وتفجير رؤوس البشر، عادي، وكذلك الأفلام الجديدة والقديمة العاكسة لرداءة الواقع وتخلّفه من دون محاولة البحث في الأسباب واقتراح المعالجة، مروراً بالمسلسلات الدراميّة التي تسهّل نشر ثقافة القتل، وكلّها قصص عن تجارة السلاح ومغامرات المافيات وبناء العصابات (...). هذا التشويق المغفل الذي يخاطب الغرائز الحيوانية والعدوانية في الإنسان، ويعكس لدى بعضهم فرط الذكورية المهزومة أمام الواقع الافتراضي، ويقوم، بشكل جوهري، على ترسيخ صور الدمار والدماء وتبرير الحروب، هذا ما يستحق أن نسأله للأنظمة السياسية الحاكمة ومؤسسات التعليم والرقابة التي يجب أن تكافح جذور الكراهية والانتقام. وليس المقصود هنا فقط ذكورية الرجال، إنما ظاهر قتل الإنسان بالمطلق، مهما كان جنسه ونوعه الاجتماعي. ولعل نموذج المرأة المصرية في قرية ميت تمامة في محافظة الدقهلية شمال القاهرة، التي كتبت رسالة انتحار بعدما قتلت أولادها الثلاثة، تدفعنا إلى السؤال: هل العجز عن فهم مشكلات الحياة وصعوباتها يكفي ليدفع المرء إلى الانتحار أو القتل؟ وفي الحالتين، ثمّة جريمة ضد الإنسانيّة بصورة واضحة.
لا أكتب بحثاً عن إجابات؛ إنمّا أريد أن أطلق صرخة احتجاج عامة بخصوص الاستخفاف بالحياة بهذا القدر من التراكمات اليوميّة والأنانيّة في عصر السرعة، فنحن نقرأ كميّة ضخمة من الأخبار، ونرى آلاف الفيديوهات، ونقضي وقتاً لا يصدق خلف شاشات هواتفنا أو حواسبنا، بفضول أو بغيره. نريد أن نعرف، ونريد أن نفهم، والمعرفة والفهم لا يجديان نفعاً مع فعل القتل، تلك القسوة القابعة في قاع البشر ألا يمكن استثمارها بتقليب التراب للزراعة؟ أو نشر مساعدة الأرض للتخلص من سمومها المناخية والكيماوية وقماماتها؟ أو الانتفاض على الساسة والعسكر ممن يبنون قوانين على مقاسات أسلحتهم وخوفنا، ولكن أي خوف وثمّة في كلّ بيت شاشة تطلق ما تريد من ترّهات الشهرة، وتبسيط الانتقام والتعامل مع الكراهيّة كأنّها سكين تضرب كلّ من لا نريدهم؟ ثم ماذا؟
لقد هربنا من طائرات الأسد الحربية، لنبحث عن قيمة للحياة نساند فيها بعضنا بعضنا لنفهم وجودنا، إلا أن مشاهد الدم والرعب لا تتوقف عن مطاردة خيالنا، فأبسط الناس حين تسري فيهم دماء الكراهيّة سيفقدون الحياة بمرارة أو يقتلون أحداً، مجازياً أو مادياً، فالقتل ينمو بصور مختلفة؛ ولا أحد يوقفه!