القُبَّة الخطابية للسرديّة الإسرائيلية
حين تصرّ دولة ما على خطأ معين (مثل احتلال دولة، تسمية الناس إرهابيين، الدفاع عن الجانب الخاطئ... إلخ)، تلجأ إلى استخدام اللغة كثيراً للدفاع عن نفسها. ورغم معرفتها بأنّها ارتكبت خطأً، إلا أنّها تدّعي أنّها أصابت، وتُطوّر مجموعةً متنوعةً من الحجج لهذا الغرض، هدفها الوحيد تغطية الظلم، وإذا استطاعت، فإنّها تسعى إلى إشاعة اعتقاد بأنّها على حقّ. ولتحقيق هذا الهدف، تستخدم الخطاب الإعلامي قُبَّةً تغطّيها تماماً.
يُحاول بعضهم تغيير إدراك الناس وتبرير الجرائم باستخدام اللغة. على سبيل المثال، لا تقول أيّ دولة "أنا أحتلّ هذا البلد لنهب موارده". تقول بدلاً من ذلك إنّها تجلب الحضارة، وتعزّز التنمية في ذلك البلد، وتُصنّف من يقاومون النهب "إرهابيين". وبذلك، تُسوّق جريمتها باعتبارها تأسيساً للعدالة عبر اللغة الإعلامية. في الواقع، يدرك الجميع الحقيقة، لكن لا بدّ من أن يكون لدى المدافعين عنها قوّة كبيرة لكي تُقبَل تلك الحقائق، وإلّا يصبح الضحايا مُتّهمين ومظلومين في الوقت نفسه.
يوجد تيّار فلسفي وفيلولوجي يُدعى "التفكيكية"، التي تدرس مثل هذه السلوكات. وفقاً للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (2004)، تُشكَّل اللغة نفسها وفقاً لرؤية المركزية الأوروبية. بمعنى آخر، المفاهيم مثل الخير والحداثة والأخلاق، والحقوق الأساسية، والإرهابي والبريء، والتقدّم والتخلّف، تُفسَّر وفقاً للمعاني التي يُقدّمها الغرب (وأميركا). فمثلاً، إذا اعتبر الغرب اتجاهات الميول الجنسية لمجتمع مثلي الجنس بريئةً ومشروعةً وأخلاقيةً، وحقّاً أساساً، فإنّ النقاش بشأن ضرر هذه الأفعال لا يمكن فتحه حتّى. وإذا عُبّر عن رأيٍ مُغاير، يُعلَن على الفور معادياً للحرّية أو متأخّراً في الفكر.
عندما ينتقد شخصٌ في الغرب جرائم إسرائيل يُعلَن على الفور أنّه معادٍ للساميّة. إنّهم يرغبون في أن ترتكب إسرائيل جرائم بحرّية من دون أن يَتحدَّث أحد
في هذا السياق، يمكن اعتبار كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" ردّة فعل على العنف اللفظي، والاستغلال الذي يصل إلى إهانة الضعفاء/ الشرقيين، من خلال لغة القوّة. بينما كشف الفلاسفة الغربيون، مثل جاك دريدا، الذين يعيشون في عوالم غربية، كيفية استخدام اللغة أداةً لتبرير الجرائم. وأمّا بعض الفلاسفة، الذين يعملون في مجال العلاقات الدولية، فقد بحثوا عن طرائقَ لكشف الحقائق من خلال فكّ العبارات الجاهزة للوصول إلى الحقيقة. برأيهم، تكمن معرفة الحقيقة في كشف ما تُخفيه اللغة، إذ يمكن للغة أن تلوّن الحقائق كما الطلاء، فتُعطي شكلاً مُختلفاً لها.
يشرح هذا المقال كيفية محاولة إسرائيل والعالم الغربي تبرير احتلال فلسطين من خلال قُبَّة اللغة الإعلامية مثل حصن حديدي، مستعرضاً بعض الأمثلة. لفهم ذلك، يمكن أولاً، دراسة دور الغرب في إنشاء دولة إسرائيل في أوائل تأسيسها، إذ يعتقد الغربيّون أن ليس لهم دور في إنشائها، وهذا ما يدّعيه الإسرائيليون أيضاً، لأنّهم يرون أنّ إنشاء إسرائيل هو نتاج إنجازهم الخاص. ولكنّنا نعلم أنّه لولا وعد بلفور، الذي أصدرته بريطانيا لجعل فلسطين وطناً لليهود، لما كانت هناك دولةٌ تُدعى إسرائيل اليوم.
إضافة إلى ذلك، يستمرّ الدعم الغربي والأميركي لإسرائيل التي ترتكب حالياً عمليات إبادة باستخدام أسلحة أميركية. كذلك، يوجد بين أعضاء الكونغرس أعضاء كثيرون يحصلون على دعم من جماعات اللوبي اليهودية، مثل "أيباك". وفي مقابل ذلك، يدعمون اسرائيل بالطرق كلّها داخل أروقة الكونغرس وخارجه. وعلى الجانب الآخر في أوروبا، باستثناء بعض الدول، الوضع مشابه، إذ تُقدَّم كلّ أنواع الدعم لإسرائيل. على سبيل المثال، بدأت ألمانيا، منذ أيام، باستخدام قانون جديد للجنسية يستند إلى رفض العداء لإسرائيل ذريعةً لرفض منح الجنسية الألمانية. ونجد أنّ أكثر الحجج التي يلجأ إليها الغرب هو حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها. لكنّ هذه العبارة، التي تبدو بريئة، تعمل في الحقيقة ستارةً تُغطّي جرائم كبيرة. ففعلياً، ليست إسرائيل في موقف الدفاع في القتال الحالي، بل في موقف الهجوم. يأتي إسرائيليون إلى منازل الفلسطينيين، يستولون على ممتلكاتهم، يظلمونهم، يقتلونهم. ومع ذلك، فالحديث عن حقّ الدفاع عن النفس. الشخص الذي يُهدّد حياتك وممتلكاتك لا يمكن أن يكون إلّا قاتلاً. ومع ذلك، تُصرّ كلٌّ من إسرائيل والغرب على تسمية هذا العمل بحقّ الدفاع عن النفس. ومن ثم، تُعتبَر السرقةُ حقّاً، بينما يُصبح من الإرهاب وقف هذه السرقة.
أيضاً، تقول إسرائيل إنّ الفلسطينيين ليسوا بشراً. ومع ذلك، تُقاس الإنسانية بالرحمة والعدل. لذا، من لا يرى طفلاً يُقتل إنساناً فإنّه ليس إنساناً. الذين يَدّعون أنّ الأطفال الذين يُقتلون سيصبحون من "حماس"، فيُبرّرون بذلك قصفهم بالقنابل ليسوا إنسانيين. لذا، تُستخدم هذه الحيلة الكلامية فقط لتغطية الوحشية التي تَرتكِب المجازر في حقّ الاطفال.
ادّعاء آخر يروّجونه، وهو عدم وجود دولةٍ تُسمَّى فلسطين أو أمَّةٍ فلسطينية، ولكننا نعلم أنّ فلسطين كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية حتّى عام 1917. بعد ذلك، أسّس البريطانيون دولةً تحت انتدابهم باسم دولة فلسطين، وتوجد جوازات سفر من ذلك العصر. ثمّ، في 1948، أقرّت الأمم المتّحدة إنشاء دولتَين، إسرائيل وفلسطين. ومن ثم، يعترف القانون الدولي بوجود دولة فلسطين، وينفي الادّعاءات الإسرائيلية التي تقول بعدم وجود دولة فلسطينية.
وفي ما يخص الشعب الفلسطيني، نعم، هم من أصل عربي، ولكن هذا لا يعني أنّهم ليسوا مالكين أراضي فلسطين. إذا جرى التعامل وفقاً لمنطق إسرائيل، فلا يوجد أميركيون عرقيّاً كياناً إثنيّاً أيضاً. وفي هذه الحالة، هل يكون احتلال أميركا مشروعاً؟ بل هل هناك شعبٌ يُدعى "إسرائيل"؟ حتّى إنّه لا يوجد ولو 10% من السكان الحاليين في إسرائيل ممّن يمتلكون تاريخاً يمتدّ مائة عام في فلسطين. بالإضافة إلى ذلك، لا يوجد عرقيّاً "شعبٌ" إسرائيلي. يتألف السكان بالكامل من أعراقٍ مختلفة، ولا يوجد بينهم روابط قرابة دموية. لذا، يُعتبر انتماؤهم إلى العرق السامي أيضاً مشكلة. ففي هذه الحالة، لا يوجد مفهوم لمعاداة الساميّة (العداء لليهود). هذا لأنّ العرق الساميّ يُمثّل بشكل رئيس العرب، بدلاً من اليهود العالميين. من ثم، أصبح مفهوم معاداة الساميّة مصطلحاً يستخدمه الإسرائيليون عبر اللغة لتصوير أنفسهم ضحايا. نرى ذلك خاصّة في العالم الغربي، فعندما ينتقد شخصٌ ما جرائم إسرائيل، يُعلن على الفور أنّه معادٍ للساميّة. إنّهم يرغبون في أن ترتكب إسرائيل جرائم بحرّية من دون أن يَتحدَّث أحد.
لم تَعُد "ديمقراطية" إسرائيل بالنفع على الفلسطينيين، بل سمحت بتغيير الحكومات عبر الانتخابات ما أعطى فرصة لكلّ مجموعة إسرائيلية لممارسة الظلم
الادّعاء الآخر الفارغ أنّ إسرائيل محاطة بالعرب من الجهات الأربع. ومن ثم، لديها الحقَّ في التسلّح بأنواع الأسلحة المختلفة، والتصرّف عدوانياً. عندما اعترض الرئيس الأميركي، جون كينيدي، على برنامج إسرائيل النووي، استخدم ديفيد بن غوريون هذه الحُجّة لمعارضة موقف كينيدي. ومع ذلك، هذا الادّعاء غير صحيح لأنّ العرب لم يُحاصروا إسرائيل، بل جاء الإسرائيليون أو اليهود لاحقاً، واستوطنوا بين العرب، واحتلّوا أراضيهم، وخاضوا حروباً ضدّهم، وارتكبوا مذابح، وأثاروا المشكلة. إذا اقتحم أحدهم بقوّة أراضي شعب مُعيّن، واحتلّها، فمن الطبيعي أن يكون هناك مقاومة لذلك الدخيل المُحتلّ. فمثلاً إذا أراد اليهود إنشاء مُستعمَرة مركزية في لندن، فهل كان البريطانيون ليشاهدوا ذلك بصمت؟
يجب أيضاً الإشارة إلى أنّ إسرائيل تُعتبَر دولة ديمقراطية. نعم، إسرائيل تحتكم إلى نظام ديمقراطي داخلي، ولكن كانت هناك ديمقراطية أيضاً في ألمانيا النازية. هذا يعني أنّ وجود الديمقراطية لا يكفي، وفي بعض الحالات لا يكون له علاقة حتّى بالموضوع نفسه. إذا احتلت دولة أخرى وارتكبت مجازر، فإنّ كونها ديمقراطية أو ديكتاتورية لا يهم. الديمقراطية فضيلة كبرى تضيف قيمةً إلى الدول، فلماذا لا تتصرّف إسرائيل دولةً ديمقراطيةً وتعيش بسلام مع جيرانها؟ لماذا لا تُحقّق السلام الداخلي لها على الحدود بدلاً من ارتكاب الظلم في الخارج؟... وفي القضية الفلسطينية، لم تكن "ديمقراطية" إسرائيل تعود بالنفع على الفلسطينيين، بل بالضرر. سمحت ديمقراطية إسرائيل بتغيير الحكومات في كلّ انتخابات، ما أدّى إلى فرصة جديدة لكلّ مجموعة لممارسة الظلم، حتّى إنّها أزاحت القادة الذين كانوا أكثر سلاماً، لأنّه يبدو واضحاً أنّ الشعب الإسرائيلي لا يُفضّل السياسيين المُؤيّدين للسلام.
على العموم، تختلف الأقوال المُتعلّقة بقضية فلسطين عن الواقع الميداني، لذا، إذا كنّا نريد أن نصل إلى تحقيق السلام في الميدان فعلينا أولاً تنقية الخطاب الإعلامي من الأكاذيب، لأنّ اللغة قادرة على لفّ الحقائق كالأفعى. فإذا كان هناك رغبة في مقاومة ظلم إسرائيل، فعلى الناس أن يجعلوا من دوران اللغة، الذي بنته إسرائيل نفسها في خطاباتها الإعلامية، عديم الفعّالية.