الكتابة حبّ .. ثم تأتي التفاصيل
الكتابة حبٌّ أولاً، ويأتي بعد ذلك كل شيء بالتفصيل... أو لا يأتي، فتفاصيل ما بعد الحب في الكتابة زوائد شخصية يمكن الاستغناء عنها وفقاً لتقديرات الكاتب الموهوب في كلّ عمليةٍ جديدةٍ لإنتاج النص الإبداعي.
والكتابة أيضاً شغفٌ لا بدّ أن يتملك صاحبه ليغنيه عن غيره في أثناء الانغماس به، فلا يفكّر بعواقب أو عوائد، إلّا لاحقاً، وتلك مهمة أخرى منفصلةٌ تماماً عن عملية الكتابة، مثلها مثل النشر أو الترويج أو القول والكتابة عن الكتابة الأولى.
لا أدري إن كان هذا كله حقيقة ثابتة في عملية إنتاج النصّ الكتابي أم مجرّد رأي أنحاز له، وأعمل بموجبه، لكنّني على الأقل أرى أنه دفاع جيد عن فكرة الكتابة بالمطلق، بعيداً عن تسليعها في النشر والتسويق والترويج.
نعم .. النشر والتسويق والترويج عمليات مهمة جداً لإيصال الرسالة وبثّ الفكرة، لكن ليست هي الأهم في محيط فكرة الكتابة.
أقول وأكتب هذا الآن لشعوري بالانفصال الجزئي عن عوالم النشر في السنوات الأخيرة. رغم انغماسي فيها وعلاقاتي الكثيرة والمعمّقة مع أصحابها وروادها إلّا أنّني ما زلت أحنّ لعالم الشغف الأول في فكرة الكتابة الحرّة من كلّ ما يحيط بها من أفكار.
ألاحظ أنّ الكتّاب الشباب بدأوا في الآونة الأخيرة الانشغال بآراء القرّاء أكثر من اللازم، وأحياناً بآراء النقاد، بغض النظر عن قيمة ما يقوله ويكتبه هؤلاء القراء وأولئك النقاد. الأخطر من ذلك كله انشغالهم، وربما خوفهم من آراء الناشرين التي أصبحت كالأوامر بالنسبة لهم.
هذا الانشغال الشديد بذلك كله، واعتباره جزءاً مهماً من عملية إنتاج النص الإبداعي يهدّد مساحة الشغف بالكتابة لديهم، والتي ينبغي أن تكون هي الأساس، وهي البيئة الحقيقية الحاضنة للكتّاب، ويجعل من المنتج الإبداعي سلعةً خاصة ليس للعرض والطلب وحسب، وإنّما للمعايير الجاهزة والقوالب المرسومة سلفاً، وهذا هو التوصيف الحقيقي لما يمكن أن نسميه الموات الإبداعي.
في كلّ لقاء يجمعني بكتّاب شباب، يبدو سؤال النشر هو السؤال الملحّ الأول، والذي تتفرّع منه أسئلة أخرى، كلها تصبّ في المصب ذاته؛ كيف أنشر روايتي؟ أي دور النشر مناسبة لي، هل سأدفع أموالاً؟ كيف نقنع الناشر أن يشارك بروايتي في هذه الجائزة أو تلك؟ كيف أسوّق روايتي في معارض الكتب؟ ماذا أفعل لتتصدّر روايتي قائمة الأفضل مبيعاً؟ وأسئلة أخرى تنفصل عن الكتاب لتندغم بما حوله. وهذا السؤال، بما تفرّع منه من أسئلة، على أهميته في ترويج الكتب ونشرها وتسويقها، فإنّه لا ينبغي أن يشغل بال الكاتب حتى قبل أن يبدأ مشروع كتابه.
يحدُث هذا، ويحدُث غيره في السياق نفسه، كما لاحظت، لدى الروائيين أكثر من غيرهم ربما لأنّ الرواية أصبحت النمط السائد في قراءات الشباب، كما يقول الناشرون وكما يحاولون أن يرسّخوا تلك الفكرة التسويقية بشتى الأفكار. وربما لهذا السبب غرقت المكتبات ومعارض الكتب ومواقع بيع الكتب الإلكترونية بعناوين مثيرة وأغلفة جميلة لرواياتٍ رديئة المحتوى، بحثاً عن قوائم الأعلى في المبيعات، وحفلات التوقيع البرّاقة والشهرة السريعة الزائفة، والتي سرعان ما تأتي بعكس نتائجها المتوقعة من هؤلاء الكتّاب.
هذا كله لا يعني رفض التجريب، على سبيل المثال، فالإبداع أساساً خاضعٌ للتجريب. لكن، علينا فقط التذكير بأهمية حبّ الكتابة... الشغف فيها، فلا تنشغلوا كثيراً بالنقد ومقولاته، ولا بالنشر وعقباته وإغراءاته، ولا بالقارئ ورغباته... في البداية، استمتعوا بالكتابة إن كنتم تحبونها فعلاً، ولاحقاً يأتي كلّ شيء!