الكتابة في المتاهة
من أسوأ الأسئلة التي يواجهها الكاتب السؤال عن آخر إنتاجاته الأدبية. أواجه هذا السؤال في كل مقابلة صحافية أو تلفزيونية تقريباً. ما هي آخر إنتاجاتك الأدبية؟ ودائماً أحتار في الإجابة الصحيحة، فأنا لا أعرفها، خصوصاً أنني أكتب بطريقة أفقية، فكل مشروعات الكتابة مفتوحة أمامي، عبر شاشة الحاسوب. ورغم أنني مرتّبة في كتاباتي، وأنظمها في ملفات سهل الوصول إليها حال ما أردت، إلا أنني فوضوية في الكتابة فيها. ملفاتي مفتوحة دائماً، وأنا أتنقل بينها وفقاً لمزاجي الذي لا أستطيع التنبؤ بتحرّكاته وتحولاته، ولا إلى أين سيودي بي. والنتيجة أنني أحتفظ بمشروعاتٍ لا تحتاج لكي أنتهي منها غالباً سوى للمسات بسيطة جداً، وقرار أخير بالدفع بها إلى الناشر، ولكنني، لسببٍ لا أعرفه، لا أفعل، بل أهرب منها نحو المزيد من المشروعات والملفات المفتوحة.
لديّ على سبيل المثال مجموعات شعرية منذ سنوات طويلة. وفي كل جلسة كتابة شعرية أعود إليها، لأتفقدها، فأحذف منها الكثير، وأحتفظ بالقليل، لأسباب نفسية وفنية، ثم أضيف إليها ما يتيسّر لي من الشعر. ولكن قرار النشر يبقى ذلك القرار الصعب. أما كتب الدراسات، فرغم أنها الأسهل في التحرير والترتيب، إلا أنها تبقى ناقصة دائماً من وجهة نظري، بانتظار مادّة ما أقول لنفسي كلما انتهيت من ترتيب فهرس إحداها أن تلك المادة لا بد أنها ستأتي، وأنها ستكون الأهم.
وما ينطبق على كتب الدراسات النقدية ينطبق أيضاً على كتب المقالات التي انتهيت من ترتيب وتحضير ثلاثة منها، لكن حججي بتأجيل نشرها جاهزة؛ المزاج العام للقارئ الذي اختلف بعد جائحة كورونا، والبحث عن أغلفة مناسبة ترضيني، قبل أن ترضي الناشر الذي أختلف معه دائماً حولها، والعناوين التي تتغير بشكل أسبوعي أحياناً.. وهكذا تزدحم الشاشة بملفّات الكتب، ولا يغريني سوى الجديد منها، والمهم أن الرحلة مستمرّة والشغف باقٍ.
لذلك أواجه سؤال آخر المشروعات الكتابية دائماً بأي إجابة، حتى وإن لم تكن دقيقة أو كافية، فقد أصبحتُ شبه متأكدة أن المتلقي لا يحتاج سوى إلى المنجز المتحقّق من الأعمال، وأن الكاتب لا ينبغي عليه أن يسرف في الحديث عما يريد كتابته، وما يتمنّى تحقيقه، حتى لا يفقد شغفه في التتمة.
أكتب هواجسي ومشكلاتي الصغيرة في الكتابة والنشر وحلولي المقترحة لها، لأنني أريدها أن تصل إلى الكاتب الشاب الذي يبحث عن ناشر لكتابه، حالما ينتهي منه، وعندما يرفضه ناشر أو اثنان يشعر بخيبة أمل، تصل به أحياناً إلى النقمة على عالم النشر كله. أواجه هؤلاء الشباب دائماً، وأحاول أن أوصل إليهم فكرة أن النشر يختلف تماماً عن عملية الكتابة نفسها، وهو لا يتعلق بها. وبالتالي، لا ينبغي أن يكون من عواملها الداخلية أبداً. اكتبوا أيها الشباب إن كنتم تحبّون الكتابة، بشغفكم الأول نحوها. لا تفكّروا بالنشر، ولكن فكروا بإرضاء ذلك الشغف، والإبقاء على جذوته مشتعلة دائماً. البداية هي الأهم، ولا تخافوا إن بقيت مشروعاتكم مفتوحةً دائماً، حتى بعد أن تنشروها أحياناً، فهذا يحدُث لدى معظم الكتاب.
الكتابة لا تموت، وهي عملية مستمرّة ولا منتهية. ومشروعات الكتابة، على تنوّع صورها والاختلافات بينها، مجرّد محطات توقف في طريق طويل جداً. المهم سلامة الرحلة واستمراريتها، ولذلك من الضروري جداً أن يحافظ قائد الرحلة على سلامته الشخصية أولاً، وعلى شغفه في القيادة دائماً، لكن ليس من المهم كثيراً الالتزام بخريطة السير، بل سيكون الخوض في المتاهات أحياناً مفيداً جداً في الكتابة!