الكرة مع الشعب ... وللشعب
هل سمعت يومًا ليونيل ميسّي، أو كريستيانو رونالدو، أو غيرهما من النجوم، يهدون انتصارات كرة القدم إلى فخامة الرئيس أو جلالة الملك، وينسبون تحقيق البطولات إلى حكمة القائد الزعيم وعنايته الفائقة ورعايته الكاملة للعبة وللفريق؟ هل سمعت مثلًا اسمًا لوزير الرياضة في انجلترا، مهد كرة القدم، أو ألمانيا أو أي دولة أخرى من القوى الكروية الكبرى؟.
فقط عند العرب، الزعيم المفدّى هو صاحب الفضل في الانتصار، بينما الهزيمة مسؤولية اللاعبين والمدرّب، وخصوصًا لو كان أجنبيًا، فتسمع محللين من المفترض أن شغلهم الشاغل الجوانب الفنية في الخطط والأداء، وقد تحوّلوا إلى أبواق دعاية سياسية فجّة، وحملة مباخر نفاق للرئيس والملك والوزير، الذين لولاهم ما كان للفريق (الوطني) القدرة على تحقيق الفوز. أما حين يخسر الفريق ذاته في البطولة ذاتها والظروف نفسها، فالمدرّب هو سبب الإخفاق والهزيمة، ومعه اللاعبون أحيانًا.
تاريخيًا، كرة القدم كانت إبداعًا شعبيًا خالصًا، اخترعتها الشعوب منذ قرون عديدة مضت، فيما حاربها الحكّام طويلًا للإجهاز عليها وفشلوا، فلمّا استقرّت وانتشرت قرّروا استعمالها بوصفها واحدة من أدوات السلطة.
في انجلترا، صاحبة اختراع اللعبة بشكلها الحديث، كانت كرة القدم مجرّمة قانونًا، قبل أن يضع اتحاد الكرة القوانين الحالية في القرن التاسع عشر، وتتحدّث الروايات التاريخية عن حظرها تمامًا في أزمنة قديمة، بحسب دراسة نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية قبل نحو خمس سنوات، تذكر إن الملك إدوارد الثاني حظرها أول مرّة في أبريل/ نيسان 1314، عندما كانت اللعبة تتألف من حشود كبيرة تحاول ركل الكرة أو حملها أو رميها بين القرى المتنافسة، فكان نصّ الأمر الملكي "بقدر ما يوجد ضجيج كبير في المدينة ناتج عن الزحام على الكرات الكبيرة التي قد تنشأ عنها شرورٌ كثيرة لا قدّر الله، فإننا نوصي ونمنع نيابة عن الملك استخدام هذه اللعبة في المدينة في المستقبل". وتفيد الصحيفة بأن كلا من إدوارد الثالث وريتشارد الثاني وهنري الرابع وهنري الخامس اعتقدوا، خلال حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا، أن اللعبة أوقفت رعاياهم من ممارسة الرماية، فأصدروا قوانين لقمعها، فيما لم يكن الوضع أفضل مع ملوك اسكتلندا، وفي عام 1424 أصدر جيمس مرسومًا يقضي بأن "لا يلعب أحدٌ في كرة القدم".
أصبحت علاقة القصر باللعبة أكثر هدوءًا في فترة الملكة إليزابيث الأولى، على الرغم من حظر اللعبة في مدينة مانشستر في أوائل القرن السابع عشر، لتسبّبها في تحطيم النوافذ. ولكن السلطات، في نهاية الأمر، لم تنجح مطلقًا في إنهاء اللعبة، على الرغم من قيام مدن مثل ديربي بإدخال قوانين لمكافحة الشغب لمكافحتها - لكن الشعب لم يرضخ لهذا الأمر بالرغم من عقوبة السجن لمدّة أسبوع والتي كانت تطال المخالفين للأوامر، فازدادت شعبيتها مع مرور الوقت، ما أدّى، في النهاية، إلى تشكيل اتحاد كرة القدم.
هذا ما جرى في مملكة كرة القدم، حيث فرضت اللعبة نفسها على الجميع، بوصفها السلطة الشعبية الجبّارة بمواجهة سلطة الحكومات، وهو ما فطنت إليه الأنظمة في البلاد المعجونة بالاستبداد، فقرّرت ركوب أمواجها، فيما تنشط طبقة من المنتفعين من هذه الوضعية لا تتورّع عن التزلّف من الحاكم بوصفه النجم الأول واللاعب الأول والمدرّب الأول، حتى وإن كان كهلًا في فراش المرض لا يقوى حتى على المشاهدة.
الأصل إذن أن الكرة لعبة الشعوب، منهم ولهم، وليست هبةً أو فضلًا من حاكم، بل هي صاحبة فضل على كثير من المستبدين والفاشلين الذي يتعلقون بأقدام اللاعبين، ويختبئون من فسادهم واستبدادهم في ثنايا انتصارات أطراف اللعبة الحقيقيين، بعد أن فهموا سيكولوجية الجماهير التي جعلت اللعبة عند قطاعات منهم أهم من الخبز والحرية أحيانًا.