اللادولة غاية السلطة وغاباتها
على مسرح اللادولة، شكّلت وتشكّل إعادة الاعتبار للطاغية، أو لسلطة الاستبداد ودكتاتورية الفرد، أو للمنظومة السياسية الحاكمة، أعلى درجات احتقار الشعب وكامل المجتمع الوطني، وكل قيم الإنسانية والحرية والديمقراطية التي يتشدّقون عن إيمانهم بها ليل نهار، في معاداة مطلقة لكل الدساتير والقوانين الناظمة لشؤون الدولة/ الدول، في وقتٍ تجب محاكمة كل الذين يتسببون بدمار الوطن وقتل الناس وإرهابهم، أفرادا وشعوبا ومجتمعات، واغتصاب حرّياتهم وانتهاك حيواتهم السياسية والمعيشية والاجتماعية، ومصادرة توقهم وتعطّشهم للعدالة؛ عدالة تفتقدها سلطات دول المزارع واحتكارات قوت الناس، وخبزهم اليومي وسلعهم الاستراتيجية، وتحكّمهم بكامل عمليات الاستيراد والتصدير، لا سيما وبلادنا تفتقد كل ما يعتبر إنتاجا وطنيا، حيث أهل السلطة من بورجوازيي (ورأسماليي) الطوائف وزبانيتهم من الشركاء المتوافقين أو المضاربين، يزدادون يوميا إمساكا برقاب الفقراء، حتى تحول بعض من هؤلاء الأخيرين من الطبقة الرّثة، صورة طبق الأصل عن زعاماتهم ومستزعميهم، في التطفل على كل المجالات السلطوية العاملة في الكهنوت السياسي والديني، واحتكارات الاقتصاد وكارتيلاته ومصادر هيمنته الاجتماعية والمجتمعية المضادة للدولة.
وكالعادة .. تعود السلطة بعد نبذها أكثر طواعية وليونة، تجاه من نبذوها، لكنها أكثر شراسةً ودمويةً وإرهابا، تجاه شعبها ومجتمعها، وتلك قمّة رثاثة الطرفين وحقارتهما، أو الأطراف التي آثرت وتؤثر استعباد شعوبها من أجل احتفاظها بمصالح سلطوية أنانية خاصة، لا علاقة لها بأي حكم رشيد أو ديمقراطية أو أي خيارات حرّة، أو قيم النزاهة والعدالة وأخلاقياتهما، منذ بدأت السلطة في بلادنا تتسيد الاستزعام السياسي، وتلبس أثواب الكهنوت الديني، وتزرع وتثبت مسارات سلطوية استبدادية خصوصية، أكثر أنانية ونرجسية.
يتشارك السلطويون العرب، على اختلاف تشكيلاتهم، في منظومة أو منظومات سياسية واحدة، لا تختلف مضامين أحكامها وطبائعها
لذلك عبثا يحاولون أن "يشلبنوا" أي سلطةٍ حاكمة، مهما فعلوا؛ في غياب قيم الصدق والنزاهة وأخلاقياتهما، وتسييد حقائق ووقائع وسرديات، وقرت في أذهان شعوب وأمم أنها التراث التقليدي الذي يجري تقديسه، وعبادة كل ما تدعو إليه سلطات كهنوت الدين والسياسة، كونها القائمة على أمور الدين والدنيا، حفظا لغايات ومصالح خاصة وخصوصية، وزبائنية تتشارك مع فئاتٍ أخرى، سياسية وطبقية واجتماعية، يتقاسم ويتحاصص الجميع بالسلطة، ويتصاهر و"يتناسب" كثيرون منهم لهذه الغاية: غاية نزع الشرعية عن الدولة، وتكريس سلطات خاصة يضحّي الاستيلاء الهمجي والوحشي على الدولة منتهى غاياتها ومسرح غاباتها.
يتشارك السلطويون العرب، على اختلاف تشكيلاتهم، في منظومة أو منظومات سياسية واحدة، لا تختلف مضامين أحكامها وطبائعها، في سياق ممارساتها وتطبيقاتها للحكم، عن مسلكيات شعب السلطة وأهلها، حيث لا تختلف ولا تبتعد كثيرا سلوكياتهم وممارساتهم عن بعضها، لجهة السرقات والنهب والمافيات والسمسرات التي قامت وتقوم بينهم عند الأزمات، وما أكثرها في عديد من بلادنا المستقرّة وغير المستقرّة.
في غابة السلطة وغاياتها، تفتقد الدولة مبرّرات وجودها، وتتحوّل ككيان رمزي وفعلي الى مرتع ومسرح سلطوي فعلي، يلغي رمزية الدولة
وهكذا أثبتت وتثبت السلطة في بلادٍ بمواصفات بلادنا كيف قدّمت وتقدّم ذاتها، معلية إياها على كل مقدّس، وهي لذلك لا تقدّس أصلا سوى نرجسيتها وأنانياتها الخاصة، ولذلك تقدّمها على كل المصالح والغايات والتطلعات التي ترنو إليها الشعوب وتقدّسها، على الضد من كل مافيات الكهنوتين، السياسي والديني، ومنظوماتهما وطواقهما، وما يتفرّع عنهما من مصالح اقتصادية وتجارية وأيديولوجية، والعديد من طباىع الحياة العامة وضروراتها، في بلاد تتكامل فيها حيوات الناس جميعا لتتحد على تطلعات وطن وشعب ودولة، لا تشوّهها السلطة، أو تغتصب صلاحياتها وإصلاحاتها ومصالحها العامة.
في غابة السلطة وغاياتها، تفتقد الدولة مبرّرات وجودها، وتتحوّل ككيان رمزي وفعلي الى مرتع ومسرح سلطوي فعلي، يلغي رمزية الدولة، ويحوّلها إلى مملكة ذات امتيازات خاصة بسلطة قهر وغلبة، تهيمن، في النهاية، على كل ما كان عاما أو مصالح عامة للدولة ولشعبها، وتجيّرها للصالح أو الطالح الخاص بالسلطة غير الراشدة. وهذا هو حالنا منذ صار الحكم غير الرشيد يمضي في انحرافاته وانجرافات هواه وغاياته الخاصة؛ نحو هدم الدولة وتدمير اجتماعها تطييف جماعاتها وتشتيتها وتفريقها ومذهبتها، حتى بات الوضع الآن وبتنا في أعمق أعماق الهاوية.
من يتعمّق في مطالعاته وقراءاته للتاريخ والجغرافيا العربيين والثقافة والعلوم التي اعتبرت جوهر التراث التقليدي، يتبين له أن هناك تزييفات وتأويلات وتقويلات وأحاديث وارتكابات لا حصر لها، لم تقم وزنا لحقائق أو وقائع جرى تغييبها عمدا لغايات سلطوية، أو دمرت وهدمت ومزّقت عمدا لصالح تكريس هيمنة سلطة أو سلطات تزعمت واستزعمت، ومنها من استزلمت واستسلمت لرغائب سلطوية أجنبية خارجية، مضادّة لما زعمته من إيمانها بمعتقدات وأفكار، وصادقت مافيات وعصابات حكمت دولا لم تكن كذلك، قدر ما كانت شيعا ونحلا ومللا وطوائف ومذاهب، ما زالت تسرح وتمرح في مسارح وملاعب طواقم دولنا المزعومة.