اللهو غير البريء في مفاوضات القاهرة
لا يعرف أحد على وجه الدقة لماذا توقفت المفاوضات التي دارت في القاهرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين فجأة، بعد شوط طويل من العبث غير البريء في ملاهي التهدئة.
كل ما نعرفه أن ما سمي "المبادرة المصرية" التي هي في الأساس عبارة عن أفكار ورؤى صهيونية، جرى طبخها في أروقة الحكومة الإسرائيلية، وتحولت منذ البداية من كونها وسيلة للتهدئة إلى غاية في ذاتها، بمعنى أن كل الجهد -المصري الإسرائيلي الأميركي- كان يستهدف شيئاً واحداً، هو العودة إلى نمط التفاوض كما كان في زمن حسني مبارك، بحيث تستعيد "شرم الشيخ" رونقها كعاصمة للمفاوضات التي لا تفضي إلى شيء، ويصعد الدور المصري مجدداً كوكيل حصري للتهدئة، ووسيط للتسوية.
ما نعرفه أيضاً أن القاهرة لم تحرك ساكناً، ولم تغضب أو تستشعر إهانة حين قررت الإدارة الصهيونية أن تقلب مائدة التفاوض وتغادر، فيما لا تزال صيحات الغضب الرسمي المصري من تأخر الجانب الفلسطيني في الاستجابة إلى دعوة التفاوض تدوّي في الآفاق.
ما نعرفه أيضاً أن الحكومة الصهيونية تملصت من المفاوضات مع أول فرصة سانحة، كي تقوم بعمليات تصفية إجرامية لقيادات المقاومة الفلسطينية، وبمجرد أن حصلت على معلومات استخبارية أثناء وجودها في ضيافة السلطة المصرية، قررت أن تهدم عملية التفاوض وتنطلق صوب الأهداف الموضوعة للقصف والقتل والتدمير.
ويبدو من سياق التفاوض، طوال الفترة الممتدة لأسابيع مضت، أن مباحثات القاهرة لم تكن بالنسبة للكيان الصهيوني سوى استراحة محارب أثخنته جراح العمليات البطولية للمقاومة الفلسطينية، فقرر أن يلجأ إلى أصدقائه في القاهرة كي يوفروا له مناخاً مواتياً لالتقاط أنفاسه وإعادة ترتيب أوراقه من جانب، واستدراج المقاومة التي كانت قد بلغت أوجها إلى إلقاء السلاح والجلوس على موائد الكلام من جانب آخر.
لم تكن مفاوضات القاهرة بهذا المعنى إذن أكثر من كمين لاصطياد المقاومة وإغراقها في آبار المباحثات العقيمة، حتى تتهيأ الظروف لتوجيه ضربات مباغتة لأهداف فلسطينية محددة، فكان أن قرر الجانب الإسرائيلي أن يأخذ فاصلاً قصيراً لممارسة القتل والاغتيال لقائمة بعينها من قيادات العمل الفلسطيني المقاوم، ثم يعود إلى مواصلة اللهو بما يطلق عليه "المبادرة المصرية".
وعلى ذلك يبدو تجديد السلطات المصرية دعوتها للكيان الصهيوني والفصائل الفلسطينية إلى مواصلة المفاوضات الهزلية مرة أخرى نوعاً من مكافأة المجرم على جريمته الخاطفة، ومن ثم سيصبح غريباً أن تتجرع المقاومة كأس الخديعة مرتين.
لقد وافق الفلسطينيون على الذهاب إلى القاهرة بعد أن تكفل "الوسيط" المصري بإجراء مفاوضات مع الجانب الصهيوني على أساس ورقة فلسطينية موحدة تشمل ست نقاط محددة تمثل الحقوق والمطالب الفلسطينية بحدها الأدنى، في مقدمتها وقف إطلاق النار والانسحاب الاسرائيلي الفوري من قطاع غزة، وإنهاء الحصار المفروض على غزة انطلاقا من تفاهمات 2012 ، وحزمة من المطالب تجسد الحد الأدنى من حقوق شعب يعاني الاحتلال، وليس مجموعة من المتمردين المشاغبين الذين يقضون مضاجع سلطتي الانقلاب والاحتلال المتحالفتين.
غير أن أسابيع من الجلوس على المائدة المصرية تكشف أن المستهدف مصريا وإسرائيليا لم يبلغ حتى صيغة "الهدوء مقابل الهدوء".
إن العودة لمفاوضات لم تنجز شيئا، سوى توفير الظروف المواتية للإسرائيليين لاغتيال قيادات المقاومة، تبدو شيئا عبثيا من "سيزيف الفلسطيني".
لقد جربنا كل أنواع المفاوضات، من الأرض مقابل السلام، إلى الكلام مقابل السلام، مرورا بكل العناوين الساقطة على موائد البوكر الممتدة منذ مدريد وأوسلو وكامب ديفيد الثانية ووادي عربة وشرم الشيخ، فماذا كانت المحصلة؟