اللّحاق بركب الدولة والرئيس في مصر
حلّت قبل أيام الذكرى السادسة عشرة لتأسيس حركة شباب 6 إبريل، التي انطلقت في عام 2008 على خلفية الدعوة إلى إضراب عامّ في مصر، والذي مثّل نجاحه المباغت للسلطة بداية السقوط لنظام الرئيس حسني مبارك. شتّانَ ما بين المشهد السياسي المصري في إبريل/ نيسان 2008، والذي عكس لحظةً نضاليةً انتزعت مساحةً في المجال العام، وبين تدجين النخب والتكالب على الدولة، والتماهي معها في إبريل/ نيسان 2024. عكس تأسيس الحركة وعياً سياسياً وحراكاً نوعياً عرفته مصر في السنوات الخمس السابقة على ثورة يناير 2011. وبصرف النظر عن أي انتقاد سياسي يُمكن أن يوجّه المسارات السياسية للحركة، فإنّها تعدّ بالتأكيد، من أهم أيقونات الحراك السياسي الديمقراطي في مصر. نجح نظام مبارك في تدجين الأحزاب السياسية الرسمية عقوداً منذ توليه السلطة، وخفّض سقفَ معارضتها للسلطة، وعمل على مكافأتها عبر دمجها في مؤسّسات الدولة، حتى أصبحت تساهم في استقرار السلطوية وتبريرها. لكنّ الجدار الحديدي لسلطوية مبارك بدأ في الاهتزاز في العقد الأول من الألفية الثالثة، حين تشكّل في البلاد خلال هذه السنوات فضاءٌ سياسيٌ جديدٌ خارج نطاق السياسة الحزبية والمؤسّسات السياسية التقليدية، كان من أهمّ فاعليها الحركات الاجتماعية المطلبية، والائتلافات السياسية العابرة للأيديولوجيات، والحركات الشبابية، والدور البارز والجريء للإعلام، والصحافة المستقلّة، والنشاط المحلّي والدولي لمنظمّات حقوق الإنسان الذي أسهم في تشكّل وعي مجتمعي عام بخطورة انتهاكات حقوق الإنسان التي كانت سائدةً خلالَ تلك الحقبة. وقد ركّز هذا الحراك، في البداية، على مناهضة مشروع توريث الحكم لنجل الرئيس مبارك، وصولاً إلى لحظة تشكيل ما عرف بالجمعية الوطنية للتغيّر، والتي ساهمت في الحراك السياسي، خاصّة بعد التزوير المفضوح لانتخابات برلمان 2010، وصولاً إلى الهبّة الشعبية في ميادين مصر، وسقوط شرعية نظام مبارك.
ويخبرنا الحراك المُمَهّد لثورة يناير بأنّ التغيير السياسي والضغط لفتح المجال العام يُنْتَزَعُ عبر النضال، وتشكيل التحالفات السياسية العابرة للأيديولوجيات، ورفع سقف مطالب المعارضة، وقوّة خطابها الأخلاقي. ولا يُمنح هذا التغيير بإرادة السلطة الحاكمة. أخطر ما يواجه مسار الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان في مصر اليوم تكالب قطاع معتبر من النخبة السياسية على اللحاق بركْبِ الدولة والسلطة، والانضمام إليهما وإعلان الاتحاد معهما لتحقيق مصالحَ سياسيةٍ وفئويةٍ ضيّقةٍ. يتوهّم بعضهم أنّه يمكن الحصول على تنازلاتٍ من شأنها فتح المجال العام عبر الاندماج مع السلطة، إلا أنّ هذا التوجّه ينتهي به الحال إلى معاونة وإضفاء شرعية على استبداد الحكم، وإطالة عمره بمقابلٍ بخْسٍ، رغم الفشل المنهجي لنخبة الحكم في إدارة الدولة واقتصادها على مدار سنوات. هذا الفشل الذي ستتحمّله الأجيال القادمة نتيجة فداحة التشوّه الذي أصاب الدولة ومؤسساتها وبنيتها التشريعية.
يتوهّم بعضُهم في مصر الحصول على تنازلاتٍ لفتح المجال العام بالاندماج مع السلطة
التأمل في مشاهد مسرحية الحوار الوطني، على مدار العامين الماضيين، والابتهاج بحفل تنصيب الرئيس لفترةٍ جديدةٍ، والحشد السياسي الاستعراضي في إفطار الأسرة المصرية، الذي دعت إليه الرئاسة قبل أيام، يوحي بأنّ السلطة في مصر دخلت مرحلةَ استراتيجيّةِ تدجين النخبِ كأساسٍ لإدارة الحياةِ السياسيّةِ والمدنيةِ المصرية. والتدجين يعني تليين النخب وتمييع مواقفها، وإخضاعها، وجعلها الستار الذي يحتمي به النظام في الداخل والخارج. اعتمدت هذه السلطة في بداية عهدها على التخويف المُفرط من خطر جماعة الإخوان المسلمين، وفزّاعة الإرهاب، لابتزاز المصريين والحصول على مبايعتهم المطلقة نظام الحكم مقابلَ الأمن والحياة. اتخذت هذه السلطة، أيضاً، القمع خياراً استراتيجياً ضدّ جميع الفصائل السياسية. وفي السنوات القليلة الماضية، اتّجهت السلطات المصرية إلى التوسّع في تصنيع معارضة مُستَأنَسة، ونخبٍ سياسيةٍ وإعلاميةٍ وحقوقيةٍ تمثّل "الكتلة الصلبة المتّحدة مع الدولة"، على حد قول الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته في إفطار الأسرة المصرية قبل أيام، في إشارة منه إلى أهمية الاصطفاف خلف الدولة، والذي لا يعني، في الواقع، سوى الاصطفاف خلف الرئيس، ونظام الحكم بما هو قائم. وبالتزامن مع سياسة تدجين قطاعات واسعة من النخب، استمر الإقصاء والقمع الصامت والعلني ضدّ فصائلَ أخرى من السياسيين والحقوقيين داخل البلاد وخارجها، الذين يُصوّرهم النظام متطرّفين ومعادين للدولة، بغرض عَزلِهم عن صفوف النخب المصطفّة خلف الدولة والسلطة. وقد عبّر الأكاديمي والكاتب المصري والمعتقل السياسي السابق، حسن نافعة، عن أثر هذا القمع على المجتمع المصري، في حواره قبل شهر مع موقع ذات مصر، حين صرّح "إنّ الخوف يسيطر على المصريين أكثر من أيّ وقت مرّ على شعب مصر"، وأفاد بأنّ الأمن الوطني دائم الاستدعاء له والتحقيق معه وتهديده بالاعتقال، بعد كلّ تعليق يقوم به علناً على وسائل التواصل الاجتماعي، يمثّل انتقاداً لنظام الحكم بشكل مباشر أو غيرَ مباشر.
لن تتغيّر السياسة وظروف مناخ الحرّيات العامة في مصر سوى باستلهام وإحياء روح السياق الذي أُسّست فيه حركة شباب 6 إبريل في 2008، عبر تجديد النضال من أجل انتزاع المجال العام، ورفع سقفِ وحدودِ المعارضة بديلاً من الخضوع للسيناريو المتواضع المذلّ المرسوم سلفاً من السلطة الحالية، مقابل ضمان مكانٍ في ركب الدولة والرئيس.