المبادرة العربية الوحيدة المطلوبة الآن
بينما يدخل العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني شهره الرابع بعد يومين، يسجّل النظام الرسمي العربي خروجه من القضية بشكل عملي، إذ لا ترقى المقاربات العربية من المجازر الصهيونية في غزّة إلى مستوى مقاربات دول أخرى في العالم البعيد، مثل جنوب أفريقيا وبوليفيا واسكتلندا على سبيل المثال، والتي تبدو، في هذه اللحظة الدامية، أكثر قربى لفلسطين من الذين يسمّون أنفسهم أشقاء لها وإخوة في الدم والمصير.
بذهاب جنوب أفريقيا إلى محاكمة الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية، على جرائم الإبادة الجماعية، يبدو العرب الرسميون، في هذا اللحظة، عُراةً من أيّ حجج ومبرّرات تجعلهم متفرجين على نزيف الدم الفلسطيني أو وسطاء بين الضحية والقاتل الذي لا يزالون يستقبلون ممثليه في عواصمهم، ويذهبون إليه في الأرض المحتلة للتفاوض على المذبحة.
في العرض الوافي لفرص نجاح الدعوى التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، بيّن الدكتور عزمي بشارة، من خلال قراءة معمّقة في نصوص اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، على شاشة تلفزيون العربي، أنّ بالإمكان صدور قرار بإدانة الجرائم الصهيونية في غزّة، ومعاقبة مرتكبيها، إذا ما انضمّت دولٌ أخرى رافضة للعدوان للدعوى المرفوعة من جنوب أفريقيا، مشيرًا إلى أنّ هناك دولًا عربية موقّعة على الاتفاقية الدولية، لم يسمّها.
والدول العربية التي صدّقت على الاتفاقية هي مصر والسعودية والعراق والأردن والكويت وليبيا والمغرب وسورية وتونس، تسع دول عربية كلّ منها طرف في هذه الاتفاقية، وكذلك هي شقيقة لفلسطين، كما يردّد ساستها وإعلاميوها ليل نهار، وبالتالي، فإنّ وقوفها مكتوفة الأيدي أمام الجريمة الصهيونية الموثّقة بكلّ الأدلة والوقائع، فيما تخوض جنوب أفريقيا معركة العدالة الدولية وحدها، أمر لا يمكن استيعابه، فإمّا أنّ هذه الدول لا ترى فلسطين دولة عربية شقيقة، أو أنها هي نفسها باتت تتنكّر لعروبتها، وتنكفئ على ذاتها، مكتفية بهوية قُطْرية يغذّيها خطاب شوفيني استعلائي تروّجه وسائل إعلام يبدو بعضها في هذه المعركة منحازًا ضد المقاومة.
لدينا من ضمن الدول العربية التسعة الموقعة على اتفاقية منع الإبادة الجماعية، ثلاث دول لديها علاقات تطبيع كاملة مع الكيان الصهيوني (مصر والأردن والمغرب)، ودولة كانت بصدد اتخاذ الخطوة الأخيرة على طريق التطبيع (السعودية)، فجاءت عملية طوفان الأقصى لتبعثر كلّ شيء، وتجمّد المسار، وتتبقى خمس دول، هي الكويت، ولها مواقف رسمية وشعبية جيّدة في دعم حقوق الشعب الفلسطيني، وسورية التي لا تزال تعتبر نفسها دولة ممانعة أو مواجهة مع العدو، وليبيا العصيّة على التطبيع حتى الآن، والعراق أيضًا، وتونس التي عبّرت خارجيتها عن موقف محترم من مخرجات القمّة العربية الإسلامية في الرياض أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بوصفها أنها أقلّ كثيرًا مما يجب عمله لنصرة الشعب الفلسطيني.
لا يمكن تصوّر أن واحدة من الدول الخمس البعيدة عن مسار التطبيع لا تستطيع أن تدعم جنوب أفريقيا في نضالها النبيل لوقف المذابح بحقّ الشعب الفلسطيني، والانتصار لقضيته العادلة في السعي إلى التحرّر من الاحتلال وإجرامه، كما لا يمكن تخيّل أنّ بقية الدول العربية المطبّعة، أو التي على قائمة انتظار التطبيع، تبقى مكتفيةً بالفرجة والوساطة، ولدينا عدو يعلن كلّ يوم، بوقاحة وصلف، أنّ كلّ مدينة عربية تناوئه ولا ترضخ لإرهابه يمكن أن تكون غزّة أخرى، وها هو يقطع شوطًا على طريق توسيع الجريمة باستهداف بيروت أمس، بالهجوم بطائرة مسيّرة على ضاحيتها الجنوبية.
أقامت جنوب أفريقيا الحجّة على كلّ نظام عربي يزعم أخوّته لفلسطين، ويبتزّ شعبه بأنّه الأكثر حرصاً على الأمن القومي العربي، كما أنّها ترفع أيّ غطاء سياسي أو أخلاقي للاستمرار في التطبيع، ومزاملة العدو الصهيوني عسكريًّا، تحت مظلة القيادة المركزية الأميركية التي تجمع إسرائيل بكل من الكويت، والسعودية، وقطر، وعُمان، والبحرين، والإمارات، ومصر، والعراق، وسورية، والأردن، ولبنان.
في تصريحاته أمس، كان وزير الدفاع الصهيوني واضحًا وقاطعًا في الاعتراف بأنّ هذا الكيان لا يشبه هذه المنطقة ولا تشبهه، وأنّه استعمار دخيل يفرض وجوده على هذه الأرض بالقوة العسكرية والإرهاب، حين قال "إذا لم نحقّق انتصارًا في حرب غزّة، فلن نتمكّن من العيش في الشرق الأوسط". وهذا يعني يقينًا إسرائيليًّا عميقًا بأنّهم ليسوا وجودًا طبيعيًّا في هذه المنطقة، وأنّ بقاءهم هنا مرهون باعتناق العدوان والحروب التوسعية عقيدة ثابتة من أجل إخضاع حكومات المنطقة لتفوّقهم العسكري، ذلك الوهم الذي أسقطه بضعه آلاف من المقاومين الذين يخوضون أقدس معركة نيابة عن الأمة كلّها، بينما أنظمة هذه الأمة تُغمض عينيها وتضع أصابعها في أذنيها، بينما جنوب أفريقيا، الشقيقة، تخوض، وحدها، حربًا قضائية ضد العدو الصهيوني.