المثقف في عالمٍ يتغيّر
قبل نحو عقدين أو أكثر، وفي إطار الجدل بشأن أطروحته القائلة بنهاية التاريخ، كتب فرانسيس فوكاياما مقالة أعاد فيها التمسّك بالعصب الرئيسي في نظريته، رافضاً أية مراجعة لأحكامها، لكنه اعترف بأنّ بين المئات من الذين كتبوا معارضين هذه النظرية، ثمّة من أمسك بنقطة الضعف الحقيقية فيها، وهي أنّ التاريخ لا يمكن أن يتوقّف طالما أنّ ليس لعلم الطبيعة الحديث نهاية، لأنّ هذا العلم هو الذي قد يؤدّي إلى نهاية البشرية.
يتماهى فوكوياما، إذاً، مع هذا النقد الموجّه إلى نظريته، ويذهب به إلى نهاية تشبه تلك التي ألمح إليها فرويد أو تنبأ بها ميشيل فوكو، قائلاً إنه خلال الجيلين المقبلين سيوفر لنا علم التقنية الحديثة أدوات توصلنا إلى نهاية التاريخ البشري، إلى نهاية الإنسان، حينها سيبدأ برأيه تاريخ جديد لما بعد البشرية.
لكن الغرابة التي تتبدّى لنا للوهلة الأولى من تبنّي فوكوياما آراء بعض منتقديه من زاوية مغايرة لتلك التي ألفناها في النقد الموجه إليه، سرعان ما تتبدّد، إذا ما لاحظنا أنّه ينطلق من هذا النقد لتوكيد أطروحته، لا لينفيها، فالتاريخ برأيه انتهى، والخطّة التالية لما بعد انتهائه ستكون نهاية العالم نفسه بسبب التقنيات التي أوجدها الإنسان. إنّه بالضبط يضعنا على محكّ النهايات، حيث لا توجد بارقة أمل في وضعٍ أفضل من القائم، لأننا، كما يرى، بلغنا المرحلة الأفضل التي لا آتٍ بعدها.
وإذ يلاحظ فوكوياما أنّ العالم، خلال عقد من تبشيره بنهاية التاريخ، لم يصبح أفضل مما كان، فإنه لم يجد في ذلك مدعاة للتشكيك في صحّة نظريته. إنه يكتفي بالقول إنه لم يعِدْ بأنّ المشكلات ستحلّ خلال عقد واحد، وهي حجّة قوية بالتأكيد لولا أنّ التطورات التي شهدتها حقبة ما بعد الحرب الباردة، والتي تزداد تبلوراً ووضوحاً في لحظتنا الراهنة، حملت كل المؤشّرات التي تؤكد أنّ "نهاية التاريخ" الموعودة ليست سوى بداية لتاريخٍ جديد من الهيمنة وغطرسة القوة وإملاء الشروط من البلدان المهيمنة على البلدان الأضعف.
على خلاف الاهتمام الذي أولاه، في حينه، هربرت ماركوز ومجايلوه من رموز مدرسة فرانكفورت، بتحليل آليات نمط الحياة الاستهلاكي الذي أشاعته الرأسمالية في مرحلة نضوجها، والذي يغرق الناس في أوهام المجتمع الاستهلاكي ويستوعب طاقات الاحتجاج لديهم، فإنّ مزاعم "نهاية" التاريخ تزامنت مع شيوع موجة كبيرة من التبشير بسقوط النظريات والمشاريع الكبرى التي كانت تنسب لنفسها امتياز الإحاطة بكل شيء، وتفسير كل الظواهر وتعليلها. والمؤكد أنّ تفرّغ العلوم والمعارف والاختصاصات وتشظّيها إلى فروع دقيقة متخصّصة ساهما في تعزيز الرأي أنه لم يعُد في وسع فكرة واحدة كبيرة الإحاطة بكل شيء. وتؤكد بعض دعوات ما بعد الحداثة، خصوصاً على لسان أحد أبرز منظّريها فرانسوا ليوتار، ما تدعوه نهاية السرديات الكبرى، خصوصاً منها تلك ذات التوجه اليساري أو الإنساني عامة: الثورة والتحرير والعدالة الاجتماعية، بل وحتى قيم التنوير وتمجيد العقل.
وللأسف الشديد، فإنّ هذه الدعوات الآتية في سياق الفكر الغربي، تعبيراً عن التعقيدات التي يطرحها تطوّر الرأسمالية في البلدان المتقدّمة، تجد أصداء لها في بلداننا العربية التي تبدو أبعد ما تكون عن استيفاء شروط الحداثة الفكرية، وهناك مهووسون بالموضات والتقليعات الفكرية يحاولون إسقاطها على واقعٍ مغاير، فيما نحنُ في أشدّ الحاجة إلى نموذج المثقف النقدي المستقل، ولو نسبيّاً، عن البنى والولاءات التقليدية، والقادر على الجمع بين التنظير والفعل الاجتماعي.
ليس كافياً أن يكون الإنسان مطّلعاً أو ناقلاً للمعرفة بصورة حيادية مجرّدة، إنما يجب أن يكون هو نفسه حكماً على أحداث مجتمعه، وقادراً على أن ينازل، بفكره، الرؤى الفاسدة أو الزائفة، فلا يقف عند حدود الملامسة السطحية للظواهر، وإنما يوغل فيها مبضع النقد الذي يشبه مبضع الجراح الذي يستأصل الورم، حتى لو سبب ذلك آلاماً مبرّحة لمريضه.
صحيحٌ أنّ الغاية الأساسية للثقافة والفنون هي الخلق والإبداع، لكن هذه الغاية لا يمكن أن تنفصل عن مهمة المثقف، الذي دعوناه بالنقدي، في إنتاج (وبلورة) الوعي الجديد الذي لا يهادن الظواهر المعيقة للنهضة والتقدّم، والمؤسس لقيم معرفية جديدة، والمؤصل لها في إطار السعي إلى مواجهة ما مجتمعاتنا بصدده من استحقاقاتٍ وتحدّياتٍ في الراهن والمستقبل.