المجزرة المستمرّة في سورية
لمّا قتلت في عام 1956 قوةٌ إسرائيليةٌ من حرس الحدود 43 فلسطينيا من قرية كفر قاسم، أجهزت عليهم في ساعةٍ واحدة. ولمّا قتلت وحدة شاكيد في جيش العدو عشرات الأسرى المصريين في سيناء في حرب 1967، كان جنودٌ منها يُجبِرون بعضَهم على حفر قبورهم بأيديهم، قبل أن تسير دباباتٌ فوقهم. ولمّا أزهقت قوةٌ من هذا الجيش في 1948 أرواح نحو 250 فلسطينيا في قرية الطنطورة، كانت تُكرِه بعض الضحايا على حفر خنادق ليُطلَق النار عليهم فيها، وقد أعدّت لهم حفرةً بطول 35 مترا صارت مقبرةً جماعية لهم. يقول أحد جنود وحدة ألكسندروني شارك في المذبحة إنه لا يعلم عدد الذين قتلهم هو وزملاؤه. وفي الكشف الاستقصائي الذي نشرته صحيفة الغارديان عن مذبحةٍ مروّعةٍ في حي التضامن الدمشقي، اقترفها في العام 2013 مجرمو حربٍ في المخابرات العسكرية السورية، ضمن ما تسميها السلطة هناك "قوات الدفاع الوطني"، يقول أحد هؤلاء، أمجد يوسف، إنه قتل كثيرين، ولا يعرف عددَهم. وليس قولُه هذا رجع صدىً لقولة ذلك الجندي الإسرائيلي القاتل في الطنطورة قبل 74 عاما وحسب، وإنما أيضا هو تأكيدٌ لصفة نظام آل الأسد في سورية قوة احتلال، فالشناعاتُ المشهودةُ في مجازر واعتداءاتٍ على مدنيين آمنين فلسطينيين (ولبنانيين ومصريين و..) قارَفها المحتل الإسرائيلي، منذ قام، وجيء أعلاه على نزرٍ منها، ليس عسيرا أن يلقى واحدُنا متشابهاتٍ كثيراتٍ بينها وبين جرائم حربٍ إرهابيةٍ ارتكبها هذا النظام منذ قام، بأجهزته المخابراتية والعسكرية والبوليسية العديدة، ضد المخطوفين الأسرى في سجونه (من السوريين وغيرهم)، وفي مذابح حماه وسجن تدمر وجسر الشغور ثم في الحولة وجديدة الفضل وكرم الزيتون وتفتناز وداريا ومعرّة النعمان والبيضاء والزارة و.. (ليس في وسع ذاكرةٍ فرديةٍ عدّها).
المشترك الأهم بين قوتي الاحتلال، الأسدية في سورية والإسرائيلية في فلسطين، انعدام الحساسية بشأن القتل، بأي كيفيةٍ ولأي سببٍ وتجاه أي ناسٍ أغيار، إنْ يستحقون التصفية لأنهم "عُصاة" وأخطارٌ محتملة، كما رفاقٌ لحافظ الأسد في "البعث" والسلطة والدولة، أو كانوا ناسا في بيوتهم ومساجدهم وكنائسهم ومخابزهم ومشافيهم ومدارسهم، كما يشهد على هذا بابا عمرو والبياضة في حمص، ومضايا والغوطتان في ريف دمشق، وشرقي حلب، وغير هذه الأسماء في جغرافيا الرعب السوري المديد. وما أفضى به أمجد يوسف، على ما وثّقه كاتبا تحقيق "الغارديان"، بحرفيةٍ مهنيةٍ عالية، يؤكّد هذه البديهية، فالرجل، كما كل العاملين في آلة التمويت في أجهزة القمع والقهر والفتك في سورية، لا يستشعر أنه اقترف ما هو خارج الطبيعة الإنسانية للبشر. لا يقع على ما هو بهيميٌّ في شخصِه، على قطيعيّة مسلكه مستخدَما أداةً في ماكينةٍ لن تعترف له بأي امتنانٍ أو ميزة بطولة وهو يقتل، وهو يحرق جثث قتلاه في حفرة، قبل أن يرميهم أحياء فيها.
لسائلٍ أن يسأل: أين تعلّم أمجد يوسف وصاحباه، القتيل لاحقا نجيب الحلبي، وفادي صقر، وأمثالهم، هذا التفنّن في قتل من يقول إنه كان ينتقم منهم، فيما هم سيقوا إلى المذبحة من حقولهم ومنازلهم وأماكن أرزاقهم وأشغالهم، وبينهم نساء وأطفال؟ من أين تغذّى أمجد، ومن هم من طينته، بكل هذه الأحقاد التي تجعله (وجعلت غيرَه) يصوّر جريمته لإمتاع نفسِه في مشاهدته لها، بزهو؟ لم يكن، ومن معه، في قلقٍ، أو يتحسّبون من طارئٍ ما يباغتهم، وهم يقتلون ضحاياهم المغدورين ويحرقونهم، ويصوّرونهم باحترافيةٍ روتينية (بتعبير كاتبي "الغارديان"). كانوا يؤدّون واجبا وطنيا، أو مقتضىً وظيفيا (بتعبير أمجد نفسه)، فيغشاهم فرحٌ به. يحتاج الوقوعُ على تفسير، سايكولوجي أو غيره، لهذا الشذوذ المتوحّش، إلى علومٍ ومعارف لا يتوفر عليها صاحب هذا التعليق، إنما يجتهد ويقول إنه الشعور المستحكِم لدى أمجد ومسؤوليه والحاكمين في قصر المهاجرين وفي أجهزة السلطة والجيش والأمن بأن سورية لهم وحدهم، وعلى الآخرين أن يغيبوا، بالقتل في حفرةٍ أو بغاز السارين أو بالتجويع أو بغارةٍ على مدرسةٍ أو مستشفى. إنه الشعور نفسُه في مدارك كل جندي إسرائيلي أو عنصر في عصابات الصهاينة المبكّرين، يرى أرض "يهودا والسامرة" له ولكل يهوديٍّ مثله. ومن شواهد بلا عددٍ على هذا الزعم أن المجزرتين مستمرّتان في سورية وفي فلسطين، وأن ما قاله أمجد يوسف قال شبيها له ذلك الجندي الإسرائيلي في 1948 في الطنطورة، كلاهما لا يدري أعداد من قَتلا.