المرأة في البلدان المغاربية: "العتبة" وعوائق التحرّر
هناك إدراك "نظري" عام بين أفراد النخب المغاربية بأن المرأة تشكّل في مجتمعاتهم القائمة حالة معنوية هامة، لعلها كبيرة في غالبيتها من الناحية الإحصائية العددية. وهناك أفراد من تلك النخب، على القاعدة المستنسخة من تجارب الفكر الأوروبي، من يعتبرها "نصف السماء"، هذا بالإضافة إلى عدد كبير، ربما، من المنظّمات الإنسانية في المجتمع المدني، حقوقية ونسائية وبيئية، تُعلي من شأن المناصفة، وتطالب بإحقاق المساواة ... إلخ. غير أن الاعتبار الذي يوليه هؤلاء جميعا لوضعيّتها الفعلية يختلف، وربما جذريا في بعض المواقف، باختلاف التصوّرات الأيديولوجية. وأجدها، مع ذلك، تلتقي في قضية جوهرية طبعت التفكير العام الذي استقرّت عليه تلك التصورات فترة طويلة، ثم انعكست أيضا في المحدّدات والمواقف والفصول أو البنود التي تضمنتها الدساتير والقوانين العامة، وأقصد بها، بدون مواربة، ذلك الشعور العقدي الذي يأخذ، في المجال السياسي، طابع الممالأة لشعور الجماهير واحترام العقيدة أو الدفاع عنها. كما أنه يلتبس، من الناحية الأيديولوجية، بنوع من التبرير الخاص لمظاهر التقليد والمحافظة، ثم إن له تجليات أخرى، حسب الحالة والسياق، تنعكس في الشعارات التي تتشكّل على صعيد المجتمعات للمطالبة، أو عدم المطالبة، بإنصاف المرأة وتمكينها من حقوقها العامة استجابة للتطوّرات التي تعرفها تلك المجتمعات.
وليس من المفاجئ أن تُبنى جميع الدساتير وقوانين الأحوال الشخصية في الدول المغاربية على تعاليم الدين الإسلامي، أو ما تقرّره الشريعة، في ذلك البناء، حسب التأويل الذي يريده المشرع ويقرّه انطلاقا من العوامل التي تحكم التطوّر، وطبيعة القوى الساعية إليه أو المناهضة له، والموقف من المجتمع بمختلف أبنيته. إلا أن المفاجئ في ذلك كله أن يتحوّل التأويل الديني للقوانين أو للدساتير نفسها إلى أسلوبٍ خاص، يستفيد من جميع الممكنات التقنية وغير التقنية، للتحكّم في تطور الإنسان والمجتمع برمته، أو في المراقبة، أو في تكريس الاستبداد اعتبارا للتفكير المطلق (الثَّنَوِي). والأدهى من ذلك أيضا أن يُصبح التأويل الديني منهجا يتأسّس على المفاضلة أو على التبرير الذي طابعه الحكم المسبق. وفي أجلى معانيه، قد ينقلب إلى إقامة الحد على المواقف والتصورات والتجارب. هذان عنصران بارزان في المقاربة الأيديولوجية التي تمثل، في علاقة بالمرأة وبغيرها من القضايا أو العلاقات، نمطا من التفكير القدَري وصنوه من الدونية الصريحة التي تزكّي كل أشكال الإقصاء والاستعباد والاستغلال الاقتصادي عندما يتعلق الأمر بتقسيم العمل في المجتمع، أو الحصول على ترقياتٍ، أو المساواة أمام القانون، أو في علاقة بالأجور، أو في التمتّع بالفضاء والشارع العام.
معظم الدول المغاربية أوجبت نوعا من "الحصانة الدستورية" في دساتيرها لأحكام الدين، قرّرت بموجبها، بصورة قطعية، استحالة أية مراجعة تحت أي ظرف، وكيفما كانت الأسباب والدوافع
والنتيجة المنطقية أن الدولة نفسها، بحكم الدستور المسنون الذي يعتبر الدين مرجعا في معاملاتٍ كثيرة، وإطارا استثنائيا لمختلف التصوّرات المعتمدة، تساهم على نحو تلقائي، اعتمادا على المفاهيم الرائجة، كحماية الأخلاق أو الدفاع عن المقدّسات ... إلخ، في تكوين صورتين مندمجتين متكاملتين عن الدين والدنيا: أي بالدفاع عن صورةٍ للإسلام (السنّي المالكي) أراها مُؤوّلة تأويلا إيديولوجيا نفعيا، وقد تصلُح في المجال السياسي، وفي مواقف معينة لتسفيه الديمقراطية وتوطيد الاستبداد في علاقة بذلك. أما الصورة الأخرى فترتقي إلى "الوعي الجمعي" بفعل التأثير الممارس باسم الدين، ولعلّها تستجيب لطبيعة الظروف المحيطة بالأفراد، وبخاصة في واقع الهشاشة والفقر والحاجة إلى الإعالة الاقتصادية. وبقدر ما تُشَخّص هذه الصورة طبيعة الحياة الاجتماعية السائدة بالنسبة للفئات العريضة من المجتمعات المغاربية، بقدر ما تكشف عن تدهور القيم المبنيّة على الرفاه الذي تحققه التنمية، وعلى العدل الذي يصوغ التوازن ويضبط السلم الاجتماعي، وعلى المساواة التي يمكن أن تصبح قاعدة في التعامل والإحقاق. وفي مقابل هذا يستكين "الوعي الجمعي" نفسه إلى التهافت، وَيُقِرّ بالسكيزوفرينية كسلوك مفارق يعطي الانطباع بالتفكّك والاحتيال والانقسام على الذات تحت تأثير شقاء الوجود، والعيش في مجتمعاتٍ فاسدةٍ يسود فيه الاستثناء ويعمّها التفاوت، لا تملك حلولا لمشكلاتها، ولا دافعا لانطلاقها في أيّ اتجاه.
والذي لا يثار في علاقة الدين بالدولة أن معظم الدول المغاربية أوجبت نوعا من "الحصانة الدستورية" في دساتيرها لأحكام الدين، قرّرت بموجبها، بصورة قطعية، استحالة أية مراجعة تحت أي ظرف، وكيفما كانت الأسباب والدوافع. وهو الأمر الذي يجعل تطور المجتمعات المغاربية، اعتمادا على الاستراتيجيات التحرّرية بالخصوص، مرهونا لبعض التصوّرات الدينية التي لا تعمل السُّلطات الحاكمة في تلك المجتمعات، سواء في مماشاتها أو توجيهها لكثير من الأهواء الشعبية، أو في مواجهة النصوص القطعية التي يكون فيها عادة مفتاح (أو أحد مفاتيح) التطوّر، إلا على تأكيدها بالاعتبارات التي تبرهن عادة على أن الدين نفسه يمكن أن يصبح من الأدوات السياسية الضامنة للسيطرة والتحكّم.
المفاجئ أن يتحوّل التأويل الديني للقوانين أو للدساتير نفسها إلى أسلوبٍ خاص، يستفيد من جميع الممكنات التقنية وغير التقنية، للتحكّم في تطور الإنسان والمجتمع برمته، أو في المراقبة، أو في تكريس الاستبداد
يصدُق هذا، من جانب، على التشريعات والمطالب المتعلّقة بالمرأة ووضعيتها داخل المجتمع، كما يتعلّق، من الجانب الثاني، بطبيعة الخطابات المتداولة: ذلك أن معظم التشريعات القانونية، ومنها التي وردت في الدساتير، تتقيّد، حسب التأويلات الظرفية والوقتية، بروح الدين الإسلامي، وخصوصا حين يكون الخطاب الديني و"النَّبَوِي" معه، في علاقة بالمرأة، صريحا وغرضه من الناحية الأخلاقية رادعا (الجزائر، ليبيا، موريتانيا)، ولكنها لا تحيد إلا نادرا عن "التقاليد" الاجتماعية الموروثة الراسخة والمتناقضة (المغرب، موريتانيا)، مع الاعتبار أيضا بأن قوانين كثيرة وضعية مستمدّة من الاتفاقيات والمواثيق الدولية، اختيارية أو مفروضة، تتعايش، بدون ريب، في النطاق نفسه المسموح به للممارسة العامة (تونس، المغرب) مع كثير من "الأعراف" التي التحمت بالتأثيرات الفكرية والسياسية و"الجندرية" الرائجة في عالم اليوم والمتجسّدة في مطالب كثيرة تعلنها، وتكافح من أجلها المنظمّات النسائية المنتشرة في الدول المغاربية.
يمكن القول إن لهذه الأوضاع انعكاساتها الفعلية في الخطابات المتداولة على صعيد المنظمّات النسائية نفسها، وبالنسبة لمؤسسات الدولة الوطنية، وفي المجتمع بعامة. ويمكن توضيح ذلك اعتمادا على خطاطةٍ تبيّن أن المطالب التحرّرية المتعلقة بوضعية النساء في المجتمعات المغاربية لا يمكن بناؤها على التصوّر الديني، سواء بإقحامه في المجال السياسي، أو بناء على الإيحاء التأويلي لرؤاه في شؤون المرأة. ولذلك تميّزت المطالب النسائية بالصوغ الديموقراطي. والطابع المميز هو التحرّر والدفاع الحقوقي والمناشدة والتحرّك المطلبي في مواقع العمل وفي مواجهة المؤسّسات، ثم إنها تركّزت، في مختلف البلدان المغاربية، في ثلاثة: المساواة الفعلية، المناصفة، وإصلاح أوضاع الأحوال الشخصية القائمة.
ليس من المفاجئ أن تُبنى جميع الدساتير وقوانين الأحوال الشخصية في الدول المغاربية على تعاليم الدين الإسلامي
وفي ارتباطٍ بهذا، حافظت الدولة الوطنية عموما على موقفها المحافظ، أو الليبرالي، بخصوص الأوضاع المتعلقة بالمرأة داخل المجتمع. فكان اعتمادها على المنظور الديني (الإسلامي المحافظ) موجبا لِلَجْم أو تقنين أو عرقلة أو معاقبة كل (ما من شأنه) تغيير الوضع القائم الذي تتحكم فيه. وَسَعَت في علاقة بذلك، اعتبارا للمناخ الدولي وعلى صعيد تحولات مؤسساته الأممية وغير الأممية، وبطرق تدرجية، إلى نوع من "التفاعل" مع التوجّه الإنساني العام الذي يقرّ بالتحرّر ويحثّ الدول على الاندراج في برامج الإصلاح وتقويم الأوضاع الإنسانية وتعزيز وتنفيذ سياسة المساواة والتكافؤ وتشجيع وصول المرأة إلى مناصب صنع القرار ... إلخ. وهي سياسة وسطية راهنت أكثر على الانتقائية وتَغَيُّر الذهنيات وتلطيف الصراعات داخل المجتمع، إلى جانب الاستجابة الممكنة، عن طريق التشريع، للمطالب المعلنة. (في تونس منذ 1956، وفي المغرب منذ 2004، وفي ليبيا منذ 1984، وفي موريتانيا منذ 1998، وفي الجزائر جزئيا منذ 2012 ... إلخ).
ولكن العنصر الأكبر في الخطاطة المذكورة أن المجتمعات المغاربية تبدو، في واقع الحال، رغم مظاهر التعدّد والاختلاف، على شيء كبير من المحافظة والاعتدال والوسطية المستمدّة جميعا من الدين والتاريخ العربي الإسلامي والأخلاق الطهرانية المزيفة و"الذهنيات السحرية" التي تعلّل المصائر تعليلا قدريا. وهي المجتمعات نفسها التي تكرّس، بالتبرير المناسب، مختلف المطامع والمصالح الكبرى التي كسبها الرجال، واستفادوا منها على صعيد المجتمع، ثم أقاموا من حولها منظومة من القيم السلطوية، هذا فضلا عن التخلّف العام على مستوياتٍ من الوجود الإنساني متنوّعة، فأصبح التمييز حصانة، والاستغلال المركّب (في البيت والعمل) طبيعة ثانية للهيمنة الذكورية، والوصاية "العتبة" التي لا يمكن تجاوزها، حسب فاطمة المرنيسي، سلطة على الجسد والحركة والزمن والتفكير والشهوات والاختيارات.