المقامة الدحدوحية... كذب الجميع وصدقت غزة
كم كان يبلغ تعداد عائلة مراسل قناة الجزيرة، وائل الدحدوح، قبل القصف الصاروخي الذي قتل زوجته وابنته وابنه وحفيده في منزلهم بقطاع غزة؟. ربّما كانوا مائة أو مائتين أو أقلّ أو أكثر، لكنهم بالتأكيد بعد القصف صاروا عشرات الملايين، بل مئات الملايين، من العرب وغير العرب، إذ صارت عائلة الدحدوح عائلة كلّ إنسان شاهد وحشيّة الجريمة الصهيونية، فشعر أنّ المُصابَ مُصابه، والعائلة عائلته، والجرحَ جرحًه، والوجعَ وجعًه الخاص. وهذا بالضبط ما تفعله بنا غزّة في كلّ مرّة، تقاوم، وتصمد، وتزيل عن وجوهنا تراب المذلّة وتزيح عن صدورنا صخرة الشعور بالعجز وتغسل أرواحنا اليائسة والبائسة، وتُثبت لنا أنّنا لا نزال بشرًا على قيد الحياة، وترفع رؤوسنا، وتطهّر مياديننا وشوارعنا وشاشاتنا من التلوّث والتصهين، وتعيد تعارفنا على بعضنا بعضا، وتوقظ ضمير العالم كلّه، وتصحّح التاريخ المزيّف.
بسرعة البرق، تحوّلت أهزوجة عائلة الدحدوح، إحدى كنوز التراث الشعبي الفلسطيني المغناة، إذ يردّدها الأب والأم والصغار والجدّات، متحلّقين حول الدفء المنبعث من ركوة الخشب، إلى نشيد قومي للعرب، حيث تناقلتها الصفحات، وردّدها كلّ من استمع لها حتى حفظ كلماتها:
يا دار الأوفى دار تِلبق لك الأشعار/ يا دار الأوفى دار تضوّي فيكي الأشعار
وانتي عالداير مضويّة مزروعة مجد وغار/ عالبرج العالي طلّوا الخياله بسيوف تلالي
شمسك ما بتغيب/ لا مالي ولا ولادي/ على حبّك ما في حبيب
بكتب اسمك يا بلادي/ عالشمس ال ما بتغيب
لا مالي ولا ولادي/ على حبّك ما في حبيب
لا لا لا.
كان الإجرام الصهيوني دقيقًا للغاية في اختيار أهدافه. هو ليس فقط ينتقم من شهود الحقيقة في أطفالهم، وإنّما يستهدف أكثر قصفَ المستقبل بأبشع أشكال القصف وأقذرها، إذ يركّز على الأطفال والأمهات والأجنّة في أرحامهن، متوهّمًا قدرته على تجريد فلسطين من أمضى أسلحتها: الأم الفلسطينية منبع الأبطال والبطولات التي تحمل، وتُنجب، وتربّي جهادًا وكفاحًا من أجل تحرير الوطن، لذا ليس غريبًا أن يكون نصف عدد شهداء الجريمة الصهيونية ضدّ سكان غزّة من الأطفال والنساء.
كما في كلّ مرة، كذب الجميع وصدقت وحدَها غزة، وأثبتت أنّها صاحبة الفضل على كلّ الأطراف، حتى المتآمرين عليها والمتواطئين ضدها، ممن وفروا الغطاء لكي يواصل العدو تنفيذ جريمته من دون أن يعترض طريقه أحد، وخصوصًا هؤلاء الذين يكرّرون رفض التهجير، لكنهم لا يمانعون في التقتيل والإبادة الجماعية.
منهم من كان منبوذًا مهملًا مثل مريض جزام سياسي لا يزوره أحد أو يدعوه للزيارة، ولا يقيم له وزنًا أو يحسب له حسابًا، فانتشلته غزة بصمودها وبسالتها من غياهب التجاهل والاحتقار، فأصبح يستقبل زعماء ويلعب أدوارًا ويمرّر صفقات ويعقد قمماً، ويطلب تفويضًا شعبيًا.
منهم من كان في عداد الموت السياسي، مثل محمود عبّاس، والي رام الله، الذي يكره مقاومة الشعب الفلسطيني، ويحرّض ضدها، ليستيقظ فجأة وتدبّ فيه الحياة، ويأتيه رعاة المحتلين القتلة من أوروبا وأميركا، يجلسون معه ويلقنونه ما يردّده من ساقط الثغاء أمام الميكروفونات والعدسات.
أثبتت غزّة، كعادتها، نبلها وجدارتها بأن تكون الشقيقة الكبرى لهذه الأمّة المتناهية في الصغر، أمام تجّار وسماسرة يكتبون بدمها النازف فوق ألواحٍ مصنوعةٍ من عظام الشهداء بنود صفقاتٍ مع القتلة، ويردّدون ما يطلبه منهم رعاة الجريمة التاريخيون، من إدانة كلّ أشكال المقاومة، واعتبارها لا تمثل الشعب الفلسطيني، مرورًا بالتأييد المطلق لما يقوله مشاركون في الجريمة، مثل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وقبله الأميركي العجوز الكذّاب، جو بايدن، بل ولا يخجل أحدُهم من إظهار إعجابه بالدور الإجرامي الذي يلعبُه ماكرون في المنطقة.
مؤسفٌ أن تسمع في القاهرة من يعلن موافقته وإعجابه بما يطرحه رئيس فرنسا، ويزيد عليه بأنّ القضاء على مقاومة غزّة (حماس) يتطلّب سنواتٍ من العمل العسكري الصهيوني، الذي كان قد اقترح عليه تهجير الفلسطينيين إلى صحراء النقب، حتى يتسنّى له القضاء على المقاومة (الإرهابية) في قطاع غزّة.
كلّهم خذلوا غزّة، جلّهم تآمر عليها، أقلّهم بكى عليها عندما كان المطلوب أكثر من البكاء. ومع ذلك، سوف تسامحهم غزّة وتعيد عليهم الدرس من جديد، بعد أن تنهض من تحت رماد حريقها، مثل العنقاء، منتصبة القامة أمام عدوّها في شموخ لتلاحقه أينما ذهب.. هذا يقين ساطع لا يغادر الذين عرفوا هذا الشعب الفلسطيني حقّ المعرفة.
المستقبل لفلسطين، مهما كانت بشاعة اللحظة الراهنة، واسألوا مئات الآلاف من النبلاء الذين يتظاهرون في مدن العالم رفضًا للتاريخ المزوّر كما يريد أن يفرضه بايدن وماكرون وتوابعهما الصغار في بلادنا.